أعرف نفسك _ غريغوريوس النيسي
أعرف نفسك
القديس غريغوريوس النيسي
إن "معرفة الذات" هي أعظم حماية لنا، وذلك حتى نتفادى الإنخداع بكوننا نعرف أنفسنا، بينما نحن في الحقيقة ننظر إلى شيئ آخر. هذا ما يحدث مع أولئك الذين لا يتفحصون أنفسهم بدقة. ما يروه هو القوة، الجمال، السُمعَّة، النفوذ السياسي، الغنى الوفير، الآبهة، الغرور، قوام الجسم السليم، جمال الشكل أو ما شابه، ويظنون أن مثل هذه الصفات هي حقيقتهم. مثل هؤلاء الأشخاص هم حراس مهملون لأنفسهم بسبب إستغراقهم في الصور الزائفة، فهم إذ يغفلون حقيقة أنفسهم يتركونها غير مصونة.
كيف يمكن لشخص أن يصون ما لا يعرفه؟ إن أحسن وسيلة آمنة لحماية كنوزنا هي أن نعرف أنفسنا: كل إنسان يجب أن يعرف ذاته كما هو، وأن يميِّز ذاته عن كل ما هو غريب عنها، وذلك حتى لا يهتم بحماية شيء آخر بشكل غير واعي عوضاً عن ما هو بالحقيقة ذاته.
إن الإنسان الذي يعطي قيمة كبيرة لحياة هذا العالم، أو الذي يظن أن الكرامة العالمية تستحق الحماية، لا يعرف كيف يميّز حقيقة ذاته مما هو غريب عنه. لأن كل ما هو عابر ليس - على وجه التدقيق - ملكنا. إذ كيف يمكن أن يكون لنا سيادة على ما هو عابر ومؤقت؟ إن الكائنات الروحية غير المادية هي على الدوام كما هي، بينما المادة عابرة تتغير بشكل مستمر بنوع ما من التدفق أو الحركة. ومن ثم، الشخص الذي يفصل ذاته عن ما هو ثابت سوف يُحمَّل بواسطة ما هو في جريان مستمر. وبتخليه عن ما هو ثابت من أجل ما هو عابر، يخسر كلاهما، لأنه بينما يهجر الأول يعجز عن الحفاظ على الثاني.
لهذا السبب أعطى أصدقاء العريس النصيحة التالية للعروس: "إن لم تعرفي نفسك، أيتها الجميلة بين النساء، فأخرجي على آثار الغنم وارعي جداءك عند خيام الرعاة" (نش 7:1).
ما معنى هذا؟ معناه أن الشخص الذي لا يعرف نفسه بشكل صحيح، يتيه عن قطيع الخراف ليرعى مع الجداء الذين مكانهم عن يسار المسيح (مت 25). لأن الراعي الصالح يضع الخراف عن يمينه، ويفصل الجداء عن هذه المجموعة الأكثر كمالاً، ويضعهم عن يساره. هكذا نتعلم من النصيحة التي قدمها أصدقاء العريس أنه يجب علينا أن نفحص بتدقيق جوهر الحقيقة ذاتها ونسعى نحو الحق بخطوات ثابتة.
لكنني يجب أن أشرح كلامي بوضوح أكثر. كثير من الناس لا يستمدون إستنتاجاتهم من جوهر الحقيقة ذاتها، بل يقتنعون فقط بالطريق الذي سلكه الناس من قبلهم، وبالتالي يفتقدون تماماً لأي حكم صحيح عن الحقيقة، فيأخذون العادات غير العاقلة كمعيار يرشدهم لما هو حسن بدلاً من المنطق الرصين. ومن ثم، يتلهفون وراء السلطة والمنصب السياسي، فيحققون قدراً كبيراً من المظاهر الخارجية فقط، نظراً لأنهم لا يدركون حقيقة أن كل هذا سوف ينتهي بإنتهاء هذه الحياة. إذ أن العادات والتقاليد ليست ضماناً أكيداً للمستقبل، بل غالباً ما تقودنا إلى رفقة الجداء، وليس إلى رفقة قطيع الخراف.
المعنى سيتضح عندما نرجع إلى كلمات الإنجيل. إذا فكرت ملياً في ما هو لائق بالإنسان – أي عقلانيته – سوف تحتقر قوة العادة كقوة غير عاقلة، ولن تختار أبداً ما لا يقدم أي فائدة للنفس كأنه أمر جيد. لذلك يجب أن لا نراعي بجدية آثار أقدام أولئك الذين سبقونا، مثل الأغنام الكثيرة التي تترك آثارها في العالم. لأن الطريق الأفضل للإختيار لا يتضح من خلال الظواهر الحسية، بل يظل هكذا إلى أن نرحل من هذه الحياة، آنذاك سنعلم من تتبعنا. إذن، الإنسان الذي يتبع فقط مسارات الذين عاشوا من قبله، ويأخذ عادات هذا العالم دليلاً له في الحياة، ولا يميّز الخير من الشر على أساس جوهر الحقيقة، كثيراً ما يقع في الخطأ، ويصير في يوم الدينونة العادلة جدياً بدلاً من خروفاً.
هكذا نفهم كلمات هؤلاء الأصدقاء : أيتها النفس أنتِ الآن جميلة، بالرغم من أنك كنت قبلاً سوداء، إذا كنت أيتها النفس حريصة أن تحتفظي بجمالك الفاتن على الدوام فلا تهيمي على وجهك مقتفية أثار أقدام الذين سبقوك في هذا العالم. لأن هذا الدرب الذي ترينه قد يكون طريق الجداء، فتتبعينه لعدم إمكانك مشاهدة أولئك الذين شكلوا هذا الدرب بأثار أقدامهم.
لذلك يجب الإحتراس لئلا بعد الموت ومغادرة هذه الحياة نوضع مع قطيع الجداء، لكوننا بجهل تتبعنا أثار أقدامهم أثناء الحياة.
"إن لم تعرفي نفسك، أيتها الجميلة بين النساء، فأخرجي على أثار الغنم وارعي جداءك عند خيام الرعاة". يمكن فهم هذه الفقرة بسهولة أكثر إذا نظرنا لنسخة أخرى من النص حيث الترتيب أكثر ترابطاً: "إن لم تعرفي نفسك، أيتها الجميلة من النساء، تكوني قد خرجتي وتتبعتي أثار الغنم، وتقومي برعي الجداء أمام خيام الرعاة". نص هذه النسخة يتوافق بالضبط مع التفسير الذي قدمناه.
النص إذن يقول: أحذر لئلا يحدث لك هذا
إذ أن هذا هو الطريق الآمن لحماية الأمور الحسنة التي تتمتع بها: وذلك عن طريق إدراكك بأي مقدار قد كرمك الخالق فوق جميع المخلوقات الأخرى. فهو لم يصنع السموات على صورته، ولا القمر، ولا الشمس، ولا النجوم الجميلة، ولا أي شيء آخر مما تراه في الكون المخلوق.
أنت وحدك مخلوق على مثال تلك الطبيعة التي تعلو فوق كل إدراك.
أنت وحدك شبيه للجمال السرمدي،
أنت وحدك وعاء للسعادة،
أنت وحدك صورة للنور الحقيقي،
وإذا نظرت إليه سوف تكون مثله،
ذاك الذي يشرق في داخلك عند محاكاتك إياه،
ذاك الذي ينعكس مجده في طهارتك.
لا يوجد في كل الخليقة ما يضاهي عظمتك.
كل ما في السموات يمكن إحتواءه في كف يد الله،
الذي كال بكفه مياه البحر وكال بالكيل تراب الأرض (إش 40: 12).
وبالرغم من أنه عظيم جداً لدرجة أنه يحتوي الخليقة كلها في راحة يديه،
إلا أنك يا إنسان يمكنك معانقته بالكلية.
هو يسكن فيك، ويتغلغل في كيانك كله دون أن ينحصر بداخلك،
فهو يقول: "إني سأسكن فيهم وأسير بينهم" ( 2 كو 16:6).
إذا أدركت ذلك، لن تسمح لعينيك بالتطلع لأي شيء من هذا العالم، بل ولن تعود حتى لتتعجب أمام بهاء السموات. إذ كيف يمكنك التعجب أمام السموات – يا ابني – إذا كنت أنت أكثر بقاءً منها؟! فالسموات سوف تزول، أما أنت فسوف تبقى لحياة أبدية مع ذاك الدائم إلى الأبد. فلا تتعجب إذن أمام ضخامة الأرض أو إتساع المحيط، لأنهم مثل العربة والجياد قد تم تقديمهم إليك ليكونوا تحت سلطانك، كعناصر طيّعة لإراداتك. فالأرض تخدمك وتمدك بإحتياجات الحياة، والبحر يعطيك ظهره كجواد أليف لكي تركبه.
هكذا، إن عرفتي نفسك، أيتها الجميلة بين النساء، فإنك سوف تحتقرين الكون كله، ومن خلال تثبيت النظر على الهدف الروحاني سوف لا تهتمين بأثار الأقدام الهائمة التي تجدينها في الحياة. لذا كوني يقظة وساهرة، ولا تنخدعي بواسطة قطيع الجداء، حتى لا يتم توصيفك في يوم الدينونة كجدي بل كخروف، وحتى لا تستثني من الموضع الذي عن يمين العرش. بل بالأحرى، تسمعين الصوت الحلو الذي يُخاطب جميع الخراف المتضعة الحاملة للصوف: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25).
Reference: From Glory to Glory, ****s from Gregory of Nyssa’s Mystical Writings (Homily 2 on Song of Songs), SVS Press
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق