الخميس، 30 سبتمبر 2010

تفسير قراءات 20 توت

تفسير قراءات 20 توت

عشيــــــــة

باكــــــــــــر

قراءات القــــــداس

مز 68 : 25 ، 26

مت 26 : 6 - 13

مز 8 : 2 ، 3

يو 4 : 15 - 24

أفسس 5

8 - 21

1 بط 3

5 - 14

أع 21

5 - 14

مز 45 : 14 ، 15

مت 25 : 1 - 13

مزمور باكر 8 : 2 ، 3

سلطان إبن الإنسان

هذا المزمور هو أغنية تسبيح أو حمد ، تمجد الله الخالق ، لأنه أعطى البشر المسئولية والكرامة ، يدور المزمور كله حول عظمة الله ومجده خلال عظمة الإنسان وكرامته .

يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور نظمه داود النبى ليلا ، حين كان يسهر على القطيع ، فهو زاخر بالتأملات الليلية .

مزمور مسيانى

اقتبس هذا المزمور فى العهد الجديد ثلاث مرات ، فيشير إليه ربنا يسوع المسيح حينما هتف الأطفال فى الهيكل : " أوصنا لأبن داود " مت 21 : 16 ، كما اقتبسه بولس الرسول فى 1 كو 15 : 27 ، وعب 2 : 5 – 9 ، مظهرا أنه يشير إلى ربنا .

وقد اعتبر مزمورا مسيانيا على أعلى مستوى ، إنه نبوة تخص السيد المسيح فى آلامه ، وقيامته ، وسلطانه على كل المخلوقات . فيقول أحد الدارسين السريان : [ المزمور الثامن يخص المسيح مخلصنا ] .

" أيها الرب مثل عجب صار اسمك على الأرض كلها ،

لأنه قد ارتفع عظم بهائك فوق السموات " [ 1 ]

عجيب هو اسم الله فى الخلقة وفى عهده الذى أقامه مع الإنسان ، أينما وجد الإنسان !

مجده يملأ " الأرض كلها " كخالق للمسكونة .

"من أفواه الأطفال والرضع أسست حمداً بسبب أضدادك لتسكيت عدو ومنتقم." [ 2 ]

من أفواه الأطفال والرضع أسست حمداً: الأطفال هم المولودين جديداً في المعمودية وبالتوبة، هم من عادوا من خطيتهم بتوبتهم ليشبهوا الأطفال في بساطتهم وطهارتهم والرضع هم من يرضعون تعاليم الكتاب المقدس (1كو1:3،2). بسبب أضدادك لتسكيت عدو ومنتقم= إختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء، وإختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء.. (1كو27:1،29). فهؤلاء الأطفال الروحيين يهزمون جبابرة العالم (2كو4:10،5).

" لأنى أرى السموات أعمال أصابعك ،

القمر والنجوم أنت أسستها " [ 3 ] .

يذكر هنا القمر والنجوم دون أن يشير إلى الشمس ، لأنها ترمز إلى " ربنا يسوع المسيح " ، العريس السماوى ( مز 19 : 5 ) .

القمر بتغيراته يرمز إلى " الكنيسة " ، أما النجوم بأمجادها المتباينة فى النور فترمز إلى " المؤمنين ".

يتحدث المرتل عن السموات بكونها " أعمال أصابعه " . كما فى كل الصناعات اليدوية يستخدم الإنسان أصابعه ، لهذا وكنوع من الإخلاء والأتضاع قيل إن الله صنع السموات بأصابعه ، مع أنه بدون أعضاء جسدية .

الناموس أيضا كتب بأصبع الله ( خر 31 : 18 ) ، التى نفهم بها الروح القدس . فإن الروح القدس الذى يسجل كلمات الله فى قلوبنا هو القادر وحده أن يحولنا إلى سموات !

" وضعته قليلا عن الملائكة " [ 5 ]

الله الذى هو بالطبيعة فوق الملائكة ، قد اتضع وأنقص قليلا عنهم بإخلائه ذاته بالتجسد ، ليهبنا شركة مجده ( عب 2 : 6 – 8 ، 1 كو 15 : 27 ) .

+ لأنه حمل طبيعتنا أنقص قليلا عن الملائكة .

تمجيد اسم الرب [ 9 ]

لا يختم المرتل مزموره بالتأمل فى سلطان الإنسان على الأرض ، وإنما يعود إلى البداية حيث يعلن مجد اسم الرب إلهنا .... وكأن مجد اسمه هو البداية والنهاية ، أما مجدنا فهو عطية من الله الممجد فى كل الأرض .

" أيها الرب ربنا ، مثل عجب صار اسمك على الأرض كلها " [ 9 ]

+ + +

إنجيل باكر ... يو 4 : 15 – 24 [ إصحاح المرأة السامرية ]

15 قالت له المراة يا سيد اعطني هذا الماء لكي لا اعطش و لا اتي الى هنا لاستقي
16 قال لها يسوع اذهبي و ادعي زوجك و تعالي الى ههنا
17 اجابت المراة و قالت ليس لي زوج قال لها يسوع حسنا قلت ليس لي زوج
18 لانه كان لك خمسة ازواج و الذي لك الان ليس هو زوجك هذا قلت بالصدق
19 قالت له المراة يا سيد ارى انك نبي
20 اباؤنا سجدوا في هذا الجبل و انتم تقولون ان في اورشليم الموضع الذي ينبغي ان يسجد فيه
21 قال لها يسوع يا امراة صدقيني انه تاتي ساعة لا في هذا الجبل و لا في اورشليم تسجدون للاب
22 انتم تسجدون لما لستم تعلمون اما نحن فنسجد لما نعلم لان الخلاص هو من اليهود
23 و لكن تاتي ساعة و هي الان حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للاب بالروح و الحق لان الاب طالب مثل هؤلاء الساجدين له
24 الله روح و الذين يسجدون له فبالروح و الحق ينبغي ان يسجدوا


"قالت له المرأة:

يا سيد اعطني هذا الماء لكي لا أعطش،

ولا آتي إلى هنا لأستقي". (15)

+ لما قال المسيح للمرأة: "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" قالت المرأة في الحال: "يا سيد أعطني هذا الماء". أرأيت كيف أن المرأة صعدت قليلاً قليلاً إلى التعاليم العلوية؟ لأنها في الأول ظنت أن المسيح شخص يهودي منحرف عن شريعته... ولما سمعت المرأة "ماء حيًا" (14) ظنت أن هذا القول قد قيل في وصف ماء محسوس، وصدقت أن ذلك الماء يقدر أن يبطل العطش، ولم تعرف بعد ما هو هذا الماء، لكنها تحيرت أيضًا فظنت أنه أعلى قدرًا من المياه المحسوسة، وقالت: "أعطني هذا الماء لكي لا أعطش، ولا آتي إلى هنا لأستقي".

أرأيت كيف أن المرأة فضلت المسيح على رئيس الآباء إذ أوضحت رأيها في يعقوب ومقدار عظمته وعرفت الأفضل منه؟

+ هنا اكتسبت بصيرة أكثر جلاءً. لكنها لم تكن قد أدركت بعد الصورة الكاملة، لأنها قالت: "أعطيني هذا الماء حتى لا أعطش، ولا آتي إلى ههنا لأستقي" (١٥). هنا تفضله عن يعقوب. لأن لسان حالها يقول: "لن أحتاج إلى هذه البئر مادمت أنال منك هذا الماء..." بعد أن أوضحت تقديرها ليعقوب، شاهدت من هو أفضل منه، وبهذا لم تعقها أفكارها السابقة... ولا كانت مجادلة متمردة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ بالحق قد ظهر واضحًا أن القول: "لطلبتِ أنتِ منه، فأعطاكِ ماءً حيًا" (١٠) صادق. لأنها عندما قالت: "أعطني من هذا الماء" (١٥) تسلمت الماء الحي، فلا تكون بعد في حالة فقدان عندما تعطش، كما لا تأتي إلى بئر يعقوب لتسحب ماءً.

تستطيع الآن أن تتأمل في الحق بعيدًا عن ماء يعقوب، بطريقة ملائكية تفوق الإنسان. لأن الملائكة ليسوا في حاجة إلى بئر يعقوب لكي يشربوا.

كل ملاك له في داخله ينبوع ماء يثب إلى حياة أبدية وُجد بواسطة الكلمة، ويُعلن به وبالحكمة نفسها.

على أي الأحوال إنه غير ممكن للشخص الذي لا ينشغل باجتهاد قادمًا إلى بئر يعقوب، وساحبًا ماءً منه بسبب عطشه، أن يقبل الماء الذي يعطيه الكلمة الذي يختلف عن بئر يعقوب. لهذا، كثير من الناس، في عجزٍ شديدً في هذا الجانب، في تدريب أنفسهم لمدة طويلة على سحب ماء من بئر يعقوب.

العلامة أوريجينوس

"قال لها يسوع:

اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا". (16)

حوَّل السيد المسيح الحوار من الحديث عن الماء إلى الحديث عن حياتها الزوجية، فإن كانت قد أدركت أنها في حاجة إلى ماء من صنفٍ جديدٍ قادر أن يروي، ويهب حياة أبدية، فإنه يلزمها أن تعيد تقييم حياتها الزوجية، فإنها في حاجة إلى عريس لنفسها.

أوضح السيد المسيح لها، دون أن يجرح مشاعرها، أنه يعرف ما في قلبها كما يعرف كل أسرارها العائلية، لكي يحثها على الشعور بالخطية وحاجتها إلى التوبة.

"أجابت المرأة وقالت:

ليس لي زوج.

قال لها يسوع:

حسنًا قلتِ ليس لي زوج". (17)

ياله من طبيب إلهي ماهر، فقد كشف عن علة المرأة، وبدأ بمشرطه الإلهي أن يضرب في الجسد لكن بمهارة وقدرة وحب، فجعلها تعترف بما لم يكن لامرأة أن تنطق به: "ليس لي زوج". لم يصدر اعترافها عن تبكيتٍ جارحٍ، ولا عن تشهيرٍ بها حتى أمام نفسها، إنما بحبه أيقظ ضميرها، وكشف لها عن شخصه، فاطمأنت له وصارحته بحقيقة موقفها، إذ أدركت أنه قادر أن يضمد جراحاتها ويرد لها صحتها الروحية.

+ لقد قلنا قبلاً أن الناموس الذي يحكم النفس، حيث يخضع كل أحد ذاته له، هو الزوج. الآن نقتبس شهادة عن ذلك من الرسول في رسالته إلى أهل رومية حيث يقول: "أم تجهلون أيها الأخوة، لأني أكلم العارفين بالناموس، أن الناموس يسود على الإنسان ما دام حيًا... فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي" (رو ٧: ١-٢). كما أن رجلها الحي يعني من كان رجلها هو الناموس. يقول بعد ذلك: "ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من الناموس، الرجل"... إذ لا تعود تتمم واجبات الزوجة نحو الزوج... الآن فقد مات الناموس حسب الحرف، ولم تعد النفس زانية إذ تصير لرجلٍ آخر، أي ترتبط بالناموس حسب الروح. لكن عندما يموت الرجل عن الزوجة، ربما يُقال أيضًا أن الزوجة قد ماتت عن الزوج. إذ نحن بالتبعية نفهم العبارة هكذا. "إذًا أنتم أيضًا قد متم للناموس بجسد المسيح، لكي تصيروا لآخر للذي قد أُقيم من الأموات لنُثمر لله" (رو ٧: ٤).

إذن إن كان الزوج يُعرف بأنه الناموس، والسامرية لها زوج إذ أخضعت نفسها إلى ناموس ما على أساس سوء فهم للتعاليم السليمة، الناموس الذي به كل مبتدع يود أن يعيشه، هنا يريد الكلمة الإلهي من النفس المبتدعة أن تُفضح عندما تُدخل الناموس الذي يحكمها. وإذ تحتقر نفسها لأنها لا تنتمي إلى زوجٍ شرعيٍ تبحث عن زوج آخر. إنه يود لها أن تنتمي إلى آخر، إلى الكلمة الذي يقوم من الأموات، الذي لن يهزم ولن يهلك، بل يبقى إلى الأبد (إش ٤٠: ٨؛ ١ بط ١: ٢٥)، هذا الذي يحكم ويُخضع كل أعدائه (مز ٨: ٧؛ أف ١: ٢٢). فإن "المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضًا، لا يسود عليه الموت بعد؛ لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله" (رو ٦: ٩-١٠)، بكونه عن يمينه (عب ١٠: ١٢)، حتى يخضع كل أعدائه تحت قدميه (مز ١٠٩: ١)... لهذا السبب يقول يسوع لها: "اذهبي وأدعي زوجك"... وإذ أجابته "ليـس لي زوج" [١٧] أدانت نفسها على ارتباطها بزوج كهذا.

العلامة أوريجينوس

"لأنه كان لك خمسة أزواج،

والذي لكِ الآن ليس هو زوجك.

هذا قلتِ بالصدق". (18)

في رقة عجيبة لم يجرح مشاعرها لأنها تعيش مع من هو ليس برجلها بعد خمس زيجات، وحوَّل حوارها من المجادلة حول الخلافات بين اليهود والسامريين إلى العبادة الجديدة التي تضم كل العالم، ويتمتع بها المؤمن أينما وجد.

يرى القديس جيروم أنه يليق ترك الرجال الخمسة الذين يشيرون إلى حرفية الناموس في الأسفار الموسوية، والرجل السادس وهو يشير إلى المبتدعين، لكي نلتقي بالسيد المسيح مخلص العالم.

يرى القديس أغسطينوس أن هذه المرأة قد تزوجت بخمسة رجال والذي معها ليس برجلها. الأزواج الخمسة هم الحواس الخمس، فقد ارتبطت نفسها بالحواس الجسدية، التي لم تستطع أن تشبعها، لأنها لا تقود النفس إلى الأبدية، بل إلى المحسوسات الزمنية المؤقتة. والآن الذي معها ليس برجلها، إنه العقل (غير المقدس) الذي لا يقودها إلى الكلمة والحق، بل إلى الخطأ، يقدم لها مفاهيم خاطئة. إنها محتاجة إلى عريس نفسها، رجلها القادر أن يقودها إلى الحكمة والحق والشبع.

+ كم كانت حكمة هذه المرأة عظيمة، وكم كان خضوعها إذ قبلت التوبيخ... في هذا التوبيخ يذكر أمرين: يعدد جميع أزواجها السابقين، ويوبخها على ذاك الذي تعيش معه حينئذ وهي تحاول أن تخفي أمره. هنا ماذا صنعت المرأة؟ لم تبدِ ضيقًا ولا تركته هاربة، ولا حسبت كلامه إهانة، لكنها على العكس أبدت إعجابها به، وفاق تقديرها له، إذ قالت: "يا سيد أرى أنك نبي". تطلع إلى رزانتها، إذ لم تندفع إليه مباشرة، لكنها وهي تقدره وتعجب منه قالت: "أرى" أي "يبدو لي" أنك كنبي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ أظن أن كل نفس تدخل إلى الدين المسيحي خلال الكتب المقدسة وتبدأ بالأشياء المُدركة بالحواس المدعوة أشياء جسدية، لها خمسة أزواج، لكل حاسة زوج. ولكن بعد أن تصير النفس في رفقة مع الأمور المدركة بالحواس وترغب فيما بعد أن ترتفع فوقها تندفع نحو الأمور المدركة بالروح؛ عندئذ تصطدم مع تعليم فاسد قائم على معانٍ رمزية روحية. حينئذ تقترب من زوج آخر بعد الأزواج الخمسة، وتقدم وثيقة طلاق للخمسة السابقين وكأنها تقرر أن تعيش مع هذا السادس... ونحن نقيم مع ذاك الزوج السادس حتى يأتي يسوع ويجعلنا ندرك شخصية زوجٍ كهذا. لكن بعد مجيء كلمة الرب ودخوله في حوارٍ معنا نجحد هذا الزوج ونقول: "ليس لي زوج". عندئذ يقول الرب: "حسنًا قلتِ ليس لي زوج" )١٧(.

العلامة أوريجينوس

+ إذ أعلنت المرأة السامرية المذكورة في الإنجيل أن رجلها الذي كان معها هو السادس، انتهرها الرب لأنه لم يكن زوجها. من جانبي أعلن مرة أخرى بكل حرية أن الزواج الثاني digamy لا تشجبه الكنيسة، ولا حتى الزواج الثالث trigamy، ويمكن للمرأة أن تتزوج زوجًا رابعًا... أو عدد أكبر ما دام الزواج شرعيًا... لكن وإن كان الزواج الثاني غير مشجوب إلا أنه غير مستحب... "كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء توافق" (1 كو 12:6).

القديس جيروم

"قالت له المرأة:

يا سيد أرى أنك نبي". (19)

إذ كشف لها السيد المسيح عن شخصه تدريجيًا، اكتشفت المرأة أنه عالم بكل أسرارها الخفية أدركت حسب مفهومها أنه نبي، ووثقت أنه قادر أن يجيب بصدقٍ على التساؤل الذي يحير الكثيرين: هل تتحقق العبادة الصادقة في أورشليم كما يقول اليهود أم على جبل الجرزيم كما يقول السامريون؟ وهو الجبل الذي نُطق عليه بالبركات، ويرى البعض أنه نفس الجبل الذي بنى عليه إبراهيم المذبح (تك ١٢: ٦-٧)، وأيضًا يعقوب (تك ٣٣: ١٨-٢٠).

لقد سلم السامريون الهيكل الذي بناه لهم سنبلطSanballat (عام ٣٣٢ ق.م.) لانتيخوس أبيفانيوس، طالبين منه أن يُكرس للإله جوبتر أولمبياس Jupiter Olympius، وقد نفوا كل علاقة لهم باليهود، حتى لا يعانوا من الضيقات المرة التي صبها انتيخوس عليهم.

هكذا تحول الحوار إلى الحديث عن موضع العبادة: هل هو أورشليم أم جبل الجرزيم؟

+ ما أعجب هذا الأمر، كم كانت فلسفة هذه المرأة، كيف قبلت توبيخ المسيح بأفضل ورعٍ، إذ لما أعلن المسيح فعلها المستور لم تستصعب ذلك ولا تركته وهربت، لكنها تعجبت بالأكثر لأنها قالت له: "أرى أنك نبي".

+ تأمل في الحكم العادل المستقيم لهذه المرأة، فقد اتخذت قرارها من واقع الحقائق، سواء فيما يخص أبينا يعقوب أو يسوع، أما اليهود فلم يكن رد فعلهم هكذا. إذ لما شاهدوه يطرد الشياطين منهم لم يقولوا أنه أعظم من أبينا يعقوب أب الأسباط، بل قالوا "به شيطان".

القديس يوحنا الذهبي الفم

"آباؤنا سجدوا في هذا الجبل،

وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه". (20)

حسب السامريون أن جبل جرزيم مقدس، عليه ينبغي أن يسجدوا لله. وهو الجبل الذي تقع البئر عند سفحه مباشرة قيل انه على هذا الجبل بنى إبراهيم مذبحًا، وعليه تقابل مع ملكي صادق حيث باركه. على هذا الجبل أمر موسى النبي بمباركة الشعب عند العبور إلى الأردن حيث وقف عليه شمعون ولاوي ويهوذا ويساكر ويوسف وبنيامين بينما وقف رأوبين وجاد واشير وزبولون ودان ونفتالي على جبل عيبال للعنة (تث ٢٧: ١١-١٣). على الجانب الآخر فإن اليهود حسبوا صهيون مسكن الله الذي اختاره أب الجميع، وعليه أقيم الهيكل ومارس الكهنة واللاويون العبادة فيه.

+ إذ ظنت أنه نبي لم تطلب شيئًا زمنيًا، لا صحة الجسد ولا الممتلكات ولا الثروة، لكنها اهتمت بالدين (٢٠).

+ أرأيت كيف صارت المرأة في تمييزها أكثر عزمًا؟ لأن التي اهتمت بعطشها حتى لا تتكبد لأجله تعبأ سألته فيما بعد عن آراء في الدين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ لو أن اللَّه جسد، لكان يحق أن يُسجد له على جبلٍ، لأن الجبل مادي، وكان يحق أن يُعبد في هيكل.

+ إنه لأمر عجيب! يسكن في الأعالي وهو قريب من المتواضعين. إنه "يرى المتواضع، أما المتكبر فيعرفه من بعيد" (مز 138: 6)...

إذن هل تطلب جبلاً؟ انزل لكي تقترب إليه.

هل تصعد؟ اصعد، ولكن لا تطلب جبلاً. قيل: "الصاعدون في قلبه، في وادي البكاء" (مز 84: 6). الوادي هو التواضع. لتفعل هذا كله في داخلك.

حتى إن أردت أن تطلب مكانًا مرتفعًا، موضعًا مقدسًا، اجعل لك هيكلاً في داخلك. "لأن هيكل اللَّه مقدس، الذي أنتم هو" (1 كو 3: 17).

أتريد أن تصلي في هيكلٍ؟ الجبل في داخلك، إن كنت أنت أولاً هيكل اللَّه، لأنه في هيكله يسمع من يصلي.

القديس أغسطينوس

"قال لها يسوع:

يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة،

لا في هذا الجبل،

ولا في أورشليم،

تسجدون للآب". (21)

لقد حلت الساعة التي جاء فيها ابن الإنسان ليرفع الإنسان من الحرف إلى الروح، فما يشغل ذهن المؤمنين ليس الموضع، بل وضعهم كأبناء للآب السماوي.

+ الإنسان الكامل والمقَّدس يتعدى حتى هذا، إذ يعبد الرب بطريقة تأملية وإلهية بالأكثر. فكما أن الملائكة (كما يتفق حتى اليهود) لا يعبدون الآب في أورشليم، لأنهم يعبدونه بطريقة أفضل عمن يعبدون في أورشليم، هكذا الذين يستطيعون أن يكونوا مثل الملائكة (لو ٢٠: ٣٦) في ميولهم لا يعبدون الآب في أورشليم، بل بطريقة أفضل.

العلامة أوريجينوس

+ إنه لم يفضل مكانًا آخر، إنما أعطى الأفضلية للنية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ قيل هذا حقًا في شخص اليهود، لكن ليس كل اليهود، ليس اليهود الرافضين الإيمان، بل الذين كانوا مثل الرسل والأنبياء، فقد باع كل هؤلاء القديسين ما يملكونه ووضعوا أثمانها عند أقدام الرسل. "فإن اللَّه لم يرفض شعبه الذي سبق فعرفه" (رو 11: 2).

+ كأنها تقول: يجاهد اليهود من أجل الهيكل، ونحن من أجل هذا الجبل. وعندما يأتي (المسيا) سيحتقر الجبل ويلقى بالهيكل، وسيعلمنا كل شيء، فنعرف كيف نعبد بالروح والحق. لقد عرفت من يستطيع أن يعلّمها، لكنها لم تعرف بعد أنه الآن هو يعلِّمها. الآن قد تأهلت أن تتمتع بالكشف عنه.

القديس أغسطينوس

"أنتم تسجدون لما لستم تعلمون،

أما نحن فنسجد لما نعلم،

لأن الخلاص هو من اليهود". (22)

بقوله: "لما لستم تعلمون" يشير إلى إنكار السامريين لأسفار الأنبياء التي تمهد طريق المعرفة للتعرف على شخص المسيا المخلص. وبقوله "نسجد لما نعلم" يشير إلى الأسفار الإلهية كطريق آمن للمعرفة والعبادة الحقيقية. ضم السيد المسيح نفسه إلى جمهور العابدين، لأنه صار في تواضعه ابن الإنسان.

لم يخجل ابن الله الوحيد من أن يعلن طاعته للآب وسجوده وعبادته له، بينما يستهين كثير من بني البشر في كبريائهم بالعبادة ويحسبونها مضيعة للوقت.

"لأن الخلاص هو من اليهود": ظهر الخلاص الأبدي من اليهود (رو ٩: ٥) وقُدم لهم أولاً. سلمت لهم التعاليم الإلهية (رو ٣: ٢)، وخدمة الله (رو ٩: ٤)، ومنهم جاء المسيا، ومنهم تبدأ الكرازة بالإنجيل للأمم.

+ "لأن الخلاص هو من اليهود"، ما يقوله هو هكذا: أن بركة هذا العالم تأتي منهم (لأن معرفة الله وجحد الأصنام وإنكارها بدأت بهم، وبالنسبة لكم فإن عمل السجود وإن كنتم لا تؤدونه بالأسلوب الصحيح إلاَّ أنكم استلمتموه منهم)... كما أشار بولس الرسول إلى مجيئه إذ يقول: "ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكل إلهًا مباركًا" (رو ٩: ٥). أنظر إليه كيف يمتدح العهد القديم، ويوضح أنه أساس البركات.

+ لم يظهر المسيح للمرأة السامرية لماذا سجد الآباء في ذلك الجبل، ولماذا سجد اليهود في أورشليم، فلهذا صمت، إذ أبطل وأزال عن الموضعين كليهما معالي التقدم. وأنهض نفسها موضحًا أنه لا يمتلك السامريون ولا اليهود فعلاً عظيمًا بالمقايسة إلى الفعل المزمع أن يوهب لنا. وبعد ذلك أورد الفصل بينهما، إلا أنه قد حكم أن اليهود أشرف قدرًا على هذا القياس، دون أن يفضل مكانًا على مكان. لكنه أعطى لليهود التقدم، وكأنه قال: لا ينبغى لأحد أن يجادل لأجل مكانٍ فيما بعد، إلا أن اليهود في غريزتهم قد حازوا الشرف أكثر منكم أنتم أيها السامريون لأنه قال: "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم".

فإن سألت: كيف لم يعرف السامريون من هو الذي يسجدون له؟! أجبت: لأنهم اعتقدوا بأن الله يحده مكان معين ويتحيز لهم، لهذا يسجدون له. إذ أرسلوا للفرس قائلين: "إن إله هذا المكان غاضب من أجلنا" (٢ مل ٢٦). ظنوا أنه يوجد إله محدود، فعلى هذا استرضوه وعبدوه، ولهذا السبب لبثوا يسترضون الأصنام، ويسترضون إله المسكونة، أما اليهود فكانوا بعيدين عن هذا الظن، فقد عرفوا الله أنه إله المسكونة كلها، وإن كان هذا الرأي لم يكن رأيهم كلهم، فلهذا السبب قال المسيح: "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم".

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ عندما تحدثت هذه المرأة معه كيهودي وظنت أنه نبي، أجابها كيهودي يعرف أسرار الناموس روحيًا: "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم". يقول "نحن" إذ يضم نفسه مع البشر، ولكن كيف يضم نفسه مع البشر إلا بحسب الجسد، ولكي يظهر أنه أجاب كمتجسدٍ، إذ يضيف "الخلاص من اليهود".

القديس أمبروسيوس

"ولكن تأتي ساعة وهي الآن،

حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق،

لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له". (23)

عوض الانشغال بمكان العبادة يلزم الانشغال بحال الفكر الداخلي، وهيكل الله داخل النفس، وكيفية تقديم العبادة لله الذي هو روح. فالله الآب يطلب العابدين بقلوبهم، ونادرًا ما يوجدون، إذ قيل: "من هو هذا الذي أرهن قلبه ليدنو إليَّ يقول الرب" (إر ٣٠: ٢١). طريق العبادة بالروح ضيق، لأن فيه لا يطلب الإنسان مجد الناس بل مجد الله.

العبادة بالروح تحول القلب إلى صهيون الحقيقية التي يشتهيها الله كقول المرتل:

"لأن الرب اختار صهيون، اشتهاها مسكنًا له؛ هذه هي راحتي إلى الأبد؛ ههنا أسكن لأنه اشتهيتها (مز ١٣٢: ١٣-١٤).

+ كان كل من اليهود والسامريين شديدي الاهتمام بالجسد، يطهرونه بمختلف الطرق. لذلك يقول إنه ليس بطهارة البدن، بل بطهارة ذلك الجزء غير الجسدي من كياننا، أي العقل. به نعبد الله اللاجسدي، كما لا يكون القربان بذبح العجول والخراف، بل بتكريس الإنسان نفسه لله. أهلك ذاتك، فتقدم ذبيحة حية.

+ إذ يقول الحق استبعد السامريين واليهود. فإنه وإن كان اليهود أفضل من السامريين، إلا أنهم أقل بكثير من القادمين بقدر ما أن الرمز أقل من الحقيقة. إنه يتحدث عن الكنيسة التي لها العبادة الحقيقية التي تليق بالله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ يليق بالإنسان أن يلاحظ إن العابدين بالحق يعبدون الآب بالروح والحق، ليس فقط في الساعة القادمة، بل وفي الوقت الحاضر أيضًا.

+ إن كان الآب يطلب أولئك الذين يعِّدهم أن يكونوا عابدين حقيقيين بتطهيرهم وتعليمهم بالكلمة في تعاليم صادقة، إنما يطلبهم بابنه الذي جاء يطلب من قد فقدوا (لو ١٩: ١٠؛ حز ٣٤: ١٦).

العلامة أوريجينوس

"الله روح،

والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا". (24)

+ بقوله "الحقيقيون" يستبعد اليهود والسامريين، لأن هؤلاء اليهود وإن كانوا أفضل من السامريين إلا أنهم أدنى كثيرًا من المزمعين أن يسجدوا "بالروح والحق".... إن كان الله في الماضي قد سعى إلى مثل هؤلاء... إنما لطفًا وتنازلاً منه حتى يأتي بهم إلى حظيرة الإيمان.

وإن سألت: ومن هم الساجدون الحقيقيون؟ أجبتك: الذين لا يربطون عبادتهم بمكانٍ محددٍ، وهم ينجذبون بالروح. وكما يقول بولس الرسول: "الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه" (رو ١: ٩). وفي موضع آخر يقول: "أطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم الفعلية" (رو ١٢: ١).

قول المسيح للمرأة السامرية: "الله روح" لا يدل على معنى آخر إلا على أنه خالٍ من جسم، لذلك ينبغي أن تكون عبادة للخالي من جسم خالية من جسم أيضًا، وأن نقدمها بما هو فينا خالٍ من جسم، أي أن تكون بروحنا وبنقاوة عقلنا، لذلك قال المسيح: "والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا".

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ لست أتجاسر فأحدّ قدرة اللَّه الكلية أو أقيّدها بشريحة ضيّقة من الأرض، هذا الذي الأرض والسماء لا تسعانه. كل مؤمن يُدان ليس حسب مسكنه هنا أو هناك، وإنما حسب براري إيمانه. العابدون الحقيقيون يعبدون الآب، لا في أورشليم، ولا على جبل جرزيم.

القديس جيروم

+ بكونه ابن داود يخضع للزمن وللتدبير والتنازل النسبي، لكن من جهة اللاهوت لا يخضع لزمان ولا لمكان. "جيله من يعلنه؟" (إش 8:53)

"اللَّه روح"؛ فذاك الذي هو روح قد وُلد روحيًا بكونه غير جسدي بنسبٍ غير مدرك ولا مفحوص.

الابن نفسه يقول للآب: "قال الرب لي: أنت ابني، وأنا اليوم ولدتك" هذا "اليوم" ليس زمنيًا بل سرمدي. اليوم هنا غير زمني بل قبل كل الدهور. "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك" .

القديس كيرلس الأورشليمي

+ أي عجب مادام الآب والابن يُقال عنهما أنهما "روح"، الأمر الذي نتحدث عنه بأكثر توسع عند حديثنا عن "وحدة الاسم"...

ليقرأوا أن الآب يُدعى "الروح"، كما يقول للرب في الإنجيل: "لأن اللَّه روح" (24). والمسيح يدعى "الروح"، إذ قال إرميا: "الروح أمام وجهنا، المسـيح الرب" ( مرا 20:4) .

القديس أمبروسيوس

+ الكلمات: "الله روح" لا تغير الحقيقة أن الروح القدس له اسمه الخاص به، وأنه هو العطية المقدمة لنا. قيل للسامرية التي وضعت حدودًا لله بالجبل أو الهيكل أن الله يحوي كل الأشياء ومُحوى في ذاته، وهو غير منظور ولا مُدرك، يلزم أن يُعبد بوسائل غير منظورة ولا عندما علم المسيح أن الله بكونه الروح يجب أن يعبد بالروح، وأظهر أية حرية ومعرفة ومجالات بلا حدود للسجود في عبادة الله الروح بالروح.

القديس هيلاري اسقف بواتييه

+ + +


البولس .. أفسس 5 : 8 – 21

8 لانكم كنتم قبلا ظلمة و اما الان فنور في الرب اسلكوا كاولاد نور
9 لان ثمر الروح هو في كل صلاح و بر و حق
10 مختبرين ما هو مرضي عند الرب
11 و لا تشتركوا في اعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها
12 لان الامور الحادثة منهم سرا ذكرها ايضا قبيح
13 و لكن الكل اذا توبخ يظهر بالنور لان كل ما اظهر فهو نور
14 لذلك يقول استيقظ ايها النائم و قم من الاموات فيضيء لك المسيح
15 فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء
16 مفتدين الوقت لان الايام شريرة
17 من اجل ذلك لا تكونوا اغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب
18 و لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح
19 مكلمين بعضكم بعضا بمزامير و تسابيح و اغاني روحية مترنمين و مرتلين في قلوبكم للرب
20 شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع المسيح لله و الاب
21 خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله


السلوك في نور قيامته

إذ بالحب العملي نتمثل بالله النور نحمل شركة طبيعته،فنُحسب "أَوْلاَدِ نُورٍ" ]٨[، لا مكان لظلمة الموت فينا، بل ننعم بنور القيامة، خلال هذا المفهوم يوصينا الرسول أن نسلك عمليًا كأولاد للنور متمتعين بقوة القيامة وبهجتها في داخلنا، معلنة في حياتنا اليومية وسلوكنا الخفي والظاهر، تاركين أعمال الظلمة غير اللائقة بنا، إذ يقول:

"وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ، فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ،

وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ.

فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ،

الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَان،

لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ.

لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ،

لأَنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الأُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ.

فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.

لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ.

اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ" [ 3 – 8 ]

يلاحظ في النص الآتي:

أولاً: أبرز أعمال الظلمة التي "لا تليق" بنا كأولاد النور، بل لا تُسم بيننا... كنا قبلاً نمارسها لأننا كنا في ظلمة، أما الآن فنحن نور في الرب. وقد ركز في حديثه عن أعمال الظلمة على ثلاث خطايا، وهي: "الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ" [ 3 ] ، هذه الأمور الثلاثة التي لا يليق مجرد ذكر أسمائها بيننا إن كنا بالحقيقة قديسين في الرب. يعود فيكرر نفس هذه الخطايا الثلاث [ 5 ] كعلة لحرمان الإنسان من ملكوت الله. وكما يقول الأب صرابيون: [يجب علينا أن نتجنب هذه (الخطايا) الثلاث على قدر متساوٍ من الحرص، فإن واحدة منها كما أن جميعها تغلق أمامنا ملكوت المسيح وتستبعدنا عنه بقدر متساوٍ.]

ثانيًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس قدم المجموعة الأولى من الشرور: "كل مرارة وسخط وغضب الخ" (٤: ٣١)، وأن علة هذه الشرور هي الصياح أو الصخب؛ أما المجموعة الثانية "الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ" فهي تنبع عن الشهوات الجسدية وعلتها "كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ" [ 4 ] . عوض كلمات الشكر لله.

كأن الرسول بولس وهو يقدم أعمال الشر يضع أيدينا على علة هذه الأعمال أو بدايتها التي تبدو أمرًا تافهًا ثم تستفحل... فقد يستتفه الإنسان "الصياح" أو "الصخب" عوض الهدوء والسكون... هذا الصخب يفسد عيني الإنسان أو بصيرته الداخلية فيبدأ يغضب، ثم يتحول الغضب إلى حقد ومرارة نحو الغير، وقد يتحول إلى قتل إن لم يكن جسديًا فمعنويًا. هنا أيضًا يبدأ الإنسان بكلمات المزاح غير اللائقة لتتحول إلى كلام السفاهة، فتثير شهوات الإنسان نحو الزنا والنجاسة والطمع. لذا يحذرنا الحكيم سليمان، قائلاً: "ابعد طريقك عنها، ولا تقرب إلى باب بيتها" (أم ٥: ٨).

الكلمة القبيحة أو كلام السفاهة والهزل [ 4 ] ، علامة من علامات الفراغ الداخلي، تهدم ولا تبني، تدفع إلى الزنا وكل نجاسة وطمع، لذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في تعليقه على هذه العبارات الرسولية:

[الكلمات هي الطريق للأعمال... أي نفع للنطق بالفكاهة؟ إنك مجرد تضحك!

اخبرني، هل يشغل صانع الأحذية نفسه بشيء غير ما يمس مهنته ولمنفعتها؟ هل يشتري أية آلة غير التي تخص عمله؟ لا. فإنه لا لزوم للأمور التي لا نحتاج إليها.

إذن ليتك لا تتفوه بكلمة بطالة، فخلال الكلمات البطالة تسقط في أحاديث غبية. الوقت الحاضر ليس وقت للضحك المتسيّب، إنما هو وقت للحزن والتجارب والبكاء، فهل تمزح؟

أي مصارع يدخل حلقة المصارعة ليناضل ضد خصمه، ينطق بفكاهات؟

إبليس واقف مستعد، إنه يزأر (١بط ٥: ٨) ليفترسك، إنه يجول من كل جهة، ويقلب كل الأمور ضد حياتك، ويدبر مكائد لينزعك من راحتك، يصرّ بأسنانه ويجأر، يتنفس نارًا ضد خلاصك، فهل تجلس أنت لتنطق بفكاهات وتتفوه بكلمات غبية، وتتحدث بما هو ليس للنفع؟!...

الآن وقت للحرب (الروحية) والصراع، للسهر والحراسة، لللتسلح والتسربل. لا مجال للضحك هنا، فإن هذا خاص بالعالم، اسمع ما يقوله المسيح "العالم يفرح، أنتم تحزنون" (يو ١٦: ٢٠).

المسيح صلب من أجل شرورك، وأنت تضحك؟...

اسمع ما يقوله النبي: "اعبدوا الله بخشية، هللوا له برعدة" (مز ٢: ١١). المزاح يجعل النفس رخوة وبليدة...

ليس من هو معيب مثل المازح، فإنه ليس في فمه شيء نافع بل مملوء أتعابًا.]

ثالثًا: قابل الرسول "القباحة وكلام السفاهة والهزل" بعمل مضاد لائق بأبناء النور ألا وهو "الشكر". فالمؤمن لا يُسر بالأعمال السابقة، إنما بالحري بممارسته للحياة الملائكية، حياة الشكر لله والتسبيح الدائم. بهذا يُظهر فرحه الداخلي العميق الذي لا يقوم على تصرفات زمنية سخيفة وإنما على علاقته البنوية على مستوى أبدي.

في حديثه السابق قابل أعمال الإنسان العتيق من كذب وغضب وسرقة وكلام رديء بالعمل الأساسي في الإنسان الجديد ألا وهو "المحبة" التي بها نتمثل بالله (٥: ١)، الآن يقابل أعمال الظلمة من زنا وكل نجاسة وطمع وقباحة وكلام السفاهة والهزل بعمل النور الأساسي ألا وهو "الشكر"، عمل الملائكة النورانيين. بمعنى آخر بالحب نعلن بنوتنا لله، وبالشكر نعلن شركتنا مع السمائيين.

رابعًا: يعلل الرسول بولس ضم "الطمع" إلى الزنا والنجاسة، قائلاً: "فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ" [ 5 ]، حاسبًا الطمع ليس بالأمر الهين كما يظن الكثيرون، خاصة إذا قورن بالزنا والنجاسة، فإن الطمع هو "عبادة أوثان" (كو ٣: ٥)، إذ يقيم الإنسان المال إلهًا له. فإن كان الزنا يعني عبودية الإنسان لشهوات الجسد عوض الحياة المقدسة في الرب، فالطمع هو عبودية الإنسان للأمور الزمنية عوض الحياة الأبدية والمجد السماوي في الرب. فلا يليق الاستهانة بالطمع ولا بالزنا والنجاسة... فإن هذه جميعها من سمات أبناء المعصية، تجلب الغضب الإلهي [ 6 ] .

خامسًا: لم يقل الرسول "كنتم قبلاً في الظلمة، وأما الآن في النور"، وإنما قال: "كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً، وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ" [ 8 ] .

فمن يسلك في الظلمة تمتزج حياته بها فيصير هو نفسه كما لو كان ظلمة، ومن يسلك في نور الرب يصير هو نفسه نورًا وبركةً، كقول الرب: "أنتم نور العالم" (مت ٥: ١٤؛ لو ١١: ٣٣- ٣٦؛

يو ٥: ٣٥).

سادسًا: إذ صاروا نورًا بالرب "النور الحقيقي" يلتزمون بالسلوك كأبناء للنور [ 8 ] ، فتصير الحياة المقدسة ثمرًا طبيعيًا فيهم وليس عملاً مفتعلاً! لذا يقول: "اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ. لأَنَّ ثَمَرَ النُور (الرُّوح)ِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ. مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ" [ 8 – 10 ].

+ يقول إنه ليس بفضلكم الذاتي، وإنما خلال نعمة الله تقتنون هذا، فقد كنتم قبلاً تستحقون العقاب، وأما الآن فلا تستحقون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

+ إذ كنتم في الظلمة لم تكونوا في الرب، لكن إذ استنرتم فإنكم تضيئون بالرب وليس من ذواتكم.

القديس أغسطينوس

+ [في حديثه عن بطرس الرسول الذي سار على المياه كأمر سيده]

كان قادرًا أن يعمل ما فعله الرب، لكن ليس من عندياته، وإنما في الرب...

سار بطرس على الماء كأمر الرب، مدركًا أنه يعجز عن التمتع بهذه القوة من ذاته.

بالإيمان صار لديه القوة ليحقق ما يعجز الضعف البشري عن عمله.

القديس أغسطينوس

إن كان السيد المسيح هو شمس البرّ، فإننا بروحه القدوس، الذي هو "النور" ننعم بثمر النور: "كل صلاح وبرّ وحق". فكما أن الحياة الزمنية ما كان يمكن أن يكون لها وجود بدون الشمس، مع الفارق الشاسع لا حياة لنا بدون شمس البرّ واهب كل صلاح وبرّ وحق.

سابعًا: بقوله "مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ" [ 10 ] يميز بين السالكين بأعمال الظلمة والسالكين بأعمال النور، فإن الأولين يمارسون ما هو مرضي لأنفسهم أو لغيرهم، أما أولاد النور فيهتمون كيف يرضون الله، مرددين في أعماقهم عبارة الرسول: "ماذا تريد يا رب أن أفعل؟".

ثامنًا: إذ تمتعنا بالرب النور الذي بقيامته بدّد سلطان الظلمة، فتركنا أعمال الظلمة وانتقلنا إلى النور، فصرنا به نورًا، نحمل ثمر النور، يحذرنا الرسول بولس من النكوص إلى الوراء والعودة إلى الظلمة وأعمالها، قائلاً:

"وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا.

لأَنَّ الأُمُورَ الْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرًّا ذِكْرُهَا أَيْضًا قَبِيحٌ.

وَلَكِنَّ الْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ.

لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ" [ 11 – 13 ]

بمعنى آخر أراد الرسول من المؤمنين أن يحددوا موقفهم، إن كانوا أولاد نور أم أولاد ظلمة، وذلك ليس خلال المناقشات الغبية وإنما خلال الحياة العملية. هذا ما يؤكده في أكثر من موضع، إذ يقول: "أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟! وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟!" (٢ كو ٦: ١٤، ١٥). وبنفس المعنى يقول يوحنا الحبيب: "بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس، كل من لا يفعل البرّ فليس من الله وكذا من لا يحب أخاه" (يو ٣: ١٠).

تاسعًا: بسلوكنا في النور كأولاد للنور، نأتي بثمر النور، معلنين بذلك أن أعمال الظلمة "غير مثمرة"، بالأولى (أعمال النور) تنفضح أعمال الشرير وتوبَّخ [ 11 ] ، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يقول: "أنتم نور"، الآن النور يوبّخ ما يدور في الظلمة، كأنه يقول إن كنتم فضلاء واضحين لا يقدر الأشرار أن يختفوا، وذلك كما لو أضيئت شمعة، يصير الكل في نور، ولا يقدر اللص أن يدخل، هكذا إذ يشرق نوركم ينفضح الأشرار ويُمسكون. عملنا ان نكشفهم، فلماذا يقول ربنا: "لا تدينوا لكي لا تُدانوا" (مت ٧: ١، ٣)؟ لم يقل بولس: "دينوهم" بل "وبخوهم" أي أصلحوا أمرهم.]

عاشرًا: الآن يختم حديثه عن السلوك في النور بتأكيد تمتعنا بنور قيامته وتأكيد الغلبة والنصرة للنور على الظلمة، مقتبسًا في الغالب تسبحة كانت من صميم ليتورچية العماد، تُمجّد السيد المسيح الذي يهب البشرية الاستنارة عوض الظلمة والحياة المقامة عوض موت الخطية (يو ١١: ١١)... يهب مؤمنيه الحياة الجديدة المقامة بطريقة خلاّقة جديدة تقابل خلقة النور، إذ يقول: "لِذَلِكَ يَقُولُ: اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ" [ 14 ] .

+ هذه هي قيامة القلوب أي قيامة الإنسان الداخلي، أو قيامة النفوس.

+ هو بعينه الذي يهب النور للأعمى يقيم الموتى.

القديس أغسطينوس

+ يقصد بالنائم والميت الإنسان الذي في الخطية، فإنه تفوح منه روائح كريهة كرائحة الميت، ويكون متبلدًا كمن هو نائم، فيكون كمن لا يرى شيئًا، وإنما يعيش في الأحلام والأوهام والتخيلات...

أترك الخطية فتقدر أن تعاين المسيح، "لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يأتي إلى النور" (يو ٣: ٢٠). فمن لا يرتكبها يأتي إلى النور...

"ليس الله إله أموات بل إله أحياء" (مت ٢٢: ٣٢)، فإن كان ليس إله أموات، فلنحيا نحن.

القديس يوحنا الذهبي الفم

3. التدقيق في السلوك والعبادة

إن كان كلمة الله في محبته وهبنا نور قيامته مشرقًا فينا، فلنقوم من موت الخطية، فمن جانبنا نلتزم بالحياة المدققة، لا كجهلاء بل كحكماء، وقد أوضح الرسول النقاط التالية:

أولاً: "فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ" [ 15 ] .

الحياة الروحية أشبه بمبنى يُقام أساسه بقيامة الرب الواهبة النور عوض الظلمة، والحياة عوض الموت، لكي يبقى المؤمن يعمل كل أيام تغربه بكل حكمة وتدقيق، لا بذاته إنما بالنعمة المجانية، أي بالحياة المُقامة في المسيح الموهوبة له.

هذا البناء الروحي الداخلي يمارسه كل مؤمن، كما يمارسه العاملون في الكرم لحساب الجماعة كلها، كقول الرسول نفسه: "فلينظر كل واحد كيف يبني عليه" (١ كو ٣: ١٠).

هنا نلاحظ أنه لا يكفي التدقيق في السلوك وإنما تلزم "الحكمة" أيضًا في التصرف... فقد حسب البعض أن الإيمان بالمصلوب غباوة وجهالة، وأن الاتكال على الله يعني تجاهل التفكير والحكمة، لذا ركز الرسول كثيرًا على "الحكمة" و"المعرفة" فنجده بعد قليل يؤكد: "فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبِّ" [ 17 ] .

هذا الخط واضح في كل كتابات الرسول، إذ دعانا الرب للشركة معه، فننعم بالفهم وإدراك إرادته والتمتع بحكمته.

ثانيًا: "مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ" [ 16 ] .

علامة التعقل والحكمة مع التدقيق في السلوك هو "افتداء الوقت". فالمؤمن يدرك أن حياته الزمنية هي ثروته الحقيقية من جهة كونها علة إكليله الأبدي أو هلاكه، إن افتدى وقته تحول جهاده الزمني السريع إلى إكليل سماوي خالد، وإن أهمل في أيامه القصيرة تحطمت أبديته الحقة!

"الأيام شريرة" لأنها تخدع الإنسان، فينجذب إلى الزمنيات كمن هو خالد في العالم، ليجد نفسه قد طُلبت فجأة لتقف أمام الديان العادل تعطي حسابًا عن وكالتها.

وللقديس البابا ثاوفيلس حديث مع الأم ثيؤدورا بخصوص هذه العبارة سبق عرضه في كتابنا: "قاموس آباء الكنيسة وقديسيها".

يقول القديس أغسطينوس: [أليست هذه أيامًا شريرة بالحق، إذ نقضيها في الجسد الفاسد أو تحت ثقله، وسط التجارب والضيقات العظيمة، فلا توجد إلاَّ المباهج الباطلة، دون فرحٍ أكيد، وإنما يوجد خوف مرعب وطمع جشع وحزن مذبل (للإنسان)؟! يا لها من أيام شريرة، ومع هذا فلا يوجد من يريدها أن تنتهي بل يطلب الناس العمر الطويل.]

حقًا إنها أيام شريرة ومقصرة، إذ يرى كثير من الآباء أن الأنبياء في العهد القديم والرسل في العهد الجديد بل والرب نفسه يؤكدون سرعة مجيء الرب الأخير، لكي نكون دومًا على استعداد لملاقاته، حاسبين أن الزمن، مهما طال، فهو أيام شريرة إن قرون بالأبدية المطوّبة. لذا جاء في نص منسوب للقديس هيبوليتس الروماني: [حقًا، أي عذر لإنسان يسمع هذه الأمور في الكنيسة من الأنبياء والرسل ومن الرب نفسه دون أن يعطي اهتمامًا لنفسه ولا لنهاية الأزمنة والاقتراب من الساعة التي فيها يقف أمام كرسي المسيح؟!]

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات السابقة [ 15 – 17 ] قائلاً إنه يطالبهم بالسلوك بتدقيق وبحكمة دون جهالة لينزع عنهم جذور المرارة وكل أساس للغضب، فإنهم قد دعوا كحملان يعيشون وسط ذئاب، يجدون مقاومة من الخارج كما من أهل البيت أيضًا، لذا يحتاج الأمر منهم إلى السلوك بتدقيق وبحكمة، حتى لا يتسرب الغضب إلى قلوبهم، بل يهتموا بإعلان رسالة الإنجيل خلال الحب العملي حتى للمقاومين، وأن نعطي لكل ذي حقٍ حقه (رو١٣: ٧)... ويختم حديثه بالقول: [عندما يرى بقية العالم أننا نحتمل بصبر يخجلون.]

يكمل القديس يوحنا الذهبي الفم تعليقه موضحًا السلوك بحكمة وافتداء الوقت بالقول:

[الوقت ليس ملككم! في الوقت الحاضر أنتم غرباء ورحّل وأجنبيون، فلا تطالبوا الكرامات، ولا تبحثوا عن المجد ولا السلطة أو الانتقام، احتملوا كل شيء "مفتدين الوقت".

أقول إنني أتصور إنسانًا له بيت عظيم وقد ذهب إليه أناس ليقتلوه، فالتزم بدفع مبلغ كبير ليفدي حياته. هكذا أيضًا أنت لك بيت عظيم وإيمان حقيقي في خزانتك. إنهم يريدون الحضور ليسحبوا هذا كله. أعطهم ما يريدون وإنما احفظ الأمر الرئيسي، أقصد "الإيمان".

يقول "لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ"...

ما هو شر الجسد؟ المرض!

ما هو شر النفس؟ الشر (الخطية)!

ما هو شر الماء؟ المرارة.

شر كل شيء يناسب طبيعته ويفسده...

بنفس الطريقة كما اعتدنا نقول: "قضيت يومًا رديئًا وشريرًا". الأحداث الصالحة التي تتم في اليوم هي من عند الله، أما الشريرة فهي من الناس الأشرار. إذن فالشرور التي تحدث في الأزمنة هي من صنع البشر، لذا قيل أن الأيام شريرة، كما يقال ان الأزمنة شريرة.]

ثالثًا: "وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ" [ 18 ] .

لوط الذي عذب نفسه بأفعال سدوم وعمورة الأثيمة، حين سكر أنجب من ابنتيه موآب وعمون، فكانا ونسلهما من بعدهما مقاومين لعمل الله ولشعبه عبر الأجيال. وهكذا كل من ينحرف نحو السكر يثمر مقاومة ومضادة لأعمال الله. لذا يحذرنا القديس چيروم، قائلاً: [لقد وجد الموآبيين والعمونيين أصلهم في السُكر (تك ١٩: ٣٠ - ٣٨).]

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[يليق بالإنسان العادي أن يتحفظ من السًكر من كل جانب، فكم بالأكثر يلزم بالجندي (الروحي) الذي يعيش بين السيوف، ويتعرض لسفك دمه والقتل...

اسمع ما يقوله الكتاب: "أعطوا مسكرًا لهالك، وخمرًا لمرّي النفس" (أم ٣: ٦)...

لقد أُعطيت الخمر لنا لا لهدف سوى صحة الجسد (أي لنواح طبية)، لكن هذا الهدف فسد بسبب سوء الاستخدام. اسمع ما يقوله رسولنا الطوباوي لتيموثاوس: "استعمل خمرًا قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" (١تي ٥: ٢٣)...

يقول: أتريد أن تكون فرحًا؟ أتريد أن تشغل اليوم؟ أعطيك المشروب الروحي. لأن السكر يفقدنا حتى صلاح لساننا الواضح، فيجعلنا متلجلجين ومتلعثمين، ويشّوه العينين وكل الملامح. تعلّم التسبيح بالمزامير فتلمس عذوبة العمل. فإن الذين يسبحون بها هم مملوؤن بالروح القدس كما أن الذين يتغنون بالأغاني الشيطانية هم مملوؤن بالروح النجس.]

إذن عوض البهجة بالسُكر هذا العالم لنمتليء بعمل روح الله القدوس الساكن فينا فتسكر نفوسنا بحب الله بلا انقطاع، وتهيم دائمًا في السماوات تطلب البقاء في أحضانه أبديًا.

هنا يليق أن نشير إلى أن الامتلاء بالروح لا يعني حلولاً خارجيًا نتقبله وإنما هو قبول عمل الروح فينا والتمتع بقوته العاملة داخل النفس. لقد عبّر القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس عن هذا الامتلاء بقوله إن الروح يُعطي للإنسان قدر استعداد الإنسان، وكأن الروح لا يكف عن أن يعطي ما دام الإنسان يفتح قلبه لعمله فيه ويتجاوب معه.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارة: "وأما شاول الذي هو بولس أيضًا فامتلأ بالروح القدس وشخص إليه، وقال: أيها الممتليء كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل برّ إلاَّ تزال تفسد سبل الله المستقيمة؟!" (أع ١٣: ٩، ١٠): [لا يفتكر أحد أن بولس لم يكن مملوءً من الروح عندما تحدث مع الساحر، لكن الروح القدس الساكن فيه ملأه قوة ليقف أمام الساحر؛ فكما أن الساحر يحمل قوة الشر قدم له الروح قوة... .]

رابعًا: "مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ. شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي اسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِلَّهِ وَالآبِ" [ 19 – 20 ]

لقد أعطانا الرسول نفسه مثلاً إذ قدم لنا في نفس الرسالة الكثير من المقتطفات عن التسابيح الكنسية، موضحًا بطريقة عملية كيف أن هذا التسبيح مبهج للنفس وللجماعة ككل، فقد كانت الكنيسة الأولى "جماعة مقدسة دائمة التسبيح"، يصفها الإنجيلي لوقا، قائلاً: "كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب" (أع ٢: ٤٦، ٤٧).

التسبيح والشكر هما من عمل الكنيسة السماوية، أو من عمل السمائيين، فإن قبلنا في المسيح الحياة السماوية صار التسبيح نابعًا من أعماق القلب طبيعيًا، يتجاوب معه كل كيان الإنسان، حتى إن كان وسط الضيق. هذا ما هزّ الوثنيون إذ رأوا المسيحيين يسبحون الله داخل السجون، خاصة حين يصدر الحكم بقتلهم.

في القرنين الرابع والخامس على وجه الخصوص كانت الأديرة المصرية وبراريها فراديس لا تسمع فيها سوى صوت التسبيح غير المنقطع، كما أخبرنا القديس يوحنا كاسيان. والكنيسة تعلن طبيعتها المتهللة بالرب بالتسبيح في كل ليتورچياتها، كما في الصلوات الخاصة بكل عضو...

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات الرسول السابقة، قائلاً:

[ماذا تعني "في قلوبكم للرب" [ 19 ] ؟ إنها تعني أن يكون (التسبيح) بإصغاء شديدٍ وفهمٍ، فمن لا يصغي تمامًا يترنم ناطقًا بالكلمات بينما يجول قلبه هنا وهناك.

يقول: "شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ..." [ 20 ]، بمعنى: "لتعلم طلباتكم لدى الله بالشكر" (راجع في ٤: ٦)، فإنه ليس شيء يسرّ الله مثل إنسان شاكر.

نصير نحن قادرين على تقديم الشكر لله بسحب نفوسنا من (الخطايا) السابق ذكرها، وتطهيرها بالوسائل التي أخبرنا (الرسول) عنها.

يقول: "بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ" [ 18 ] . هل الروح فينا؟ نعم، بالحق هو فينا، فإننا إذ ننزع الكذب والمرارة والزنا والنجاسة والطمع عن نفوسنا، وإذ نصير هكذا متحننين، مسامحين بعضنا البعض، ليس فينا مزاح، بهذا نحسب مؤهلين، فما الذي يمنع الروح من حلوله فينا وإنارتنا؟

إنه ليس فقط يحل وإنما يملأ قلوبنا، وإذ يلتهب فينا نور عظيم هكذا لا يكون طريق الفضيلة صعبًا بل سهلا ً وبسيطًا.

يقول: "شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" [ 20 ] .

ما هذا؟ هل نشكر على كل ما يحل بنا؟ نعم، حتى وإن حلّ بنا مرض أو فقر. فإن كان في العهد القديم ينصحنا الحكيم: "اقبل ما يحل بك بفرح وصبر حينما تصير إلى حال أقل" (ابن سيراخ ٢: ٤) فكم بالأولى في العهد الجديد؟!

نعم، قدم التشكرات حتى لو لم تعرف الكلمة (التي تقدمها)!...

إن كنت تشكر في الراحة والرخاء والنجاح والغنى فهذا ليس بالأمر العظيم، ولا هو بالعجيب، إنما يلزم الإنسان أن يشكر حين يكون في أحزان وضيقات ومتاعب. ليست كلمة أفضل من القول: "أشكرك أيها الرب"...

لنشكر الرب على البركات التي نراها والتي لا نراها أيضًا، والتي نتقبلها بغير إرادتنا، فإن كثيرًا من البركات ننالها بغير رغبتنا ودون معرفتنا...

حينما نكون في فقر أو مرض أو نكبات فلنزد تشكراتنا، لا أقصد بالتشكرات خلال الكلمات واللسان وإنما خلال العمل والأفعال، وفي الذهن وبالقلب. لنشكره بكل نفوسنا، فإنه يحبنا أكثر من والدينا، وكبُعد الشر عن الصلاح هكذا الفارق الشاسع بين حب الله لنا وحب آبائنا. هذه ليست كلماتي إنما هي كلمات المسيح نفسه الذي يحبنا. اسمعه يقول: "أم أي إنسان منكم إن سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا؟!... فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه؟!" (مت ٧: ٩، ١١).

اسمع أيضًا ما قيل في موضع آخر: "هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟! حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك" (إش ٤٩: ١٥).

إن كان لا يحبنا فلماذا خلقنا؟ هل من ضرورة تلزمه على خلقتنا؟ هل نحن نقدم له عونًا أو خدمة؟ هل يحتاج منا أن نرد له شيئًا؟

اسمع ما يقوله النبي: "قلت للرب: أنت ربي، خيري لا شيء غيرك" (مز ١٦: ٢)...

لنمجد الله على كل شيء!

يقول: "خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ" [ 21 ]

إن كنت تخضع من أجل الحاكم، أو من أجل المال، أو من أجل التكريم، فبالأولى من أجل مخافة المسيح. ليكن بيننا تبادل الخدمات مع الخضوع، فلا تكون بيننا أنانية. لا يجلس أحد كمن من طبقة الأحرار والآخر كمن من طبقة العبيد، فمن الأفضل أن يخدم السادة والعبيد بعضهما البعض. من الأفضل أن تكون عبدًا بهذه الكيفية عن أن تكون حرًا بالطريقة الأخرى، كما يظهر من المثل التالي:

افترض إنسانًا له مئة عبد يخدمونه بكل طريقة، وآخر له مئة صديق الكل يخدم بعضه البعض، أي الحياتين أسعد؟... في الأولى الكل مُلزمون بالعمل أما في الثانية فيعملون بحرية اختيارهم... الله يريدنا هكذا، لذا غسل أقدام تلاميذه.]

+ + +

الكاثوليكون .. 1 بطرس 3 : 5 – 14

5 فانه هكذا كانت قديما النساء القديسات ايضا المتوكلات على الله يزين انفسهن خاضعات لرجالهن
6 كما كانت سارة تطيع ابراهيم داعية اياه سيدها التي صرتن اولادها صانعات خيرا و غير خائفات خوفا البتة
7 كذلكم ايها الرجال كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الاناء النسائي كالاضعف معطين اياهن كرامة كالوارثات ايضا معكم نعمة الحياة لكي لا تعاق صلواتكم
8 و النهاية كونوا جميعا متحدي الراي بحس واحد ذوي محبة اخوية مشفقين لطفاء
9 غير مجازين عن شر بشر او عن شتيمة بشتيمة بل بالعكس مباركين عالمين انكم لهذا دعيتم لكي ترثوا بركة
10 لان من اراد ان يحب الحياة و يرى اياما صالحة فليكفف لسانه عن الشر و شفتيه ان تتكلما بالمكر
11 ليعرض عن الشر و يصنع الخير ليطلب السلام و يجد في اثره
12 لان عيني الرب على الابرار و اذنيه الى طلبتهم و لكن وجه الرب ضد فاعلي الشر
13 فمن يؤذيكم ان كنتم متمثلين بالخير
14 و لكن و ان تالمتم من اجل البر فطوباكم و اما خوفهم فلا تخافوه و لا تضطربوا


علاقتنا العائلية في المسيح يسوع

١. وصايا زوجية

أولاً: خضوع المرأة للرجل

"كذلك أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن

حتى إن كان البعض لا يطيعون الكلمة

يُربحون بسيرة النساء بدون كلمة.

ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف" [1-2].

كانت الشريعة الرومانيّة تبيح للرجل أن يتسلط على زوجته وأولاده، كما على عبده وحيواناته. فلم يكن للنساء أي حق مما دفع بعضهن إلى الهروب. ولما جاءت المسيحية تنادي بالحب، ظن البعض أنها في مناداتها بالحب والحرية تحث النساء على العصيان، لهذا وجهت الكنيسة وصايا واضحة للنساء خاصة بخضوعهن لرجالهن.

يطلب الرسول من المؤمنات أن يخضعن لرجالهن حتى وإن كان البعض غير مطيعين للكلمة، فإنهم يسمعون كلمة الكرازة العملية خلال سيرة النساء الطاهرة المملوءة خوفًا وتقوي لله. فإن كان لا يليق بها أن تُعَلِّم رجلها لأنه رأسها، لكنها تقدر أن تكسبه للرب، وتجتذب قلبه إليه بخضوعها وسلوكها الحسن.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [المرأة بطاعتها للرجل يصير وديعًا نحوها... بالمحبة تزول كل مقاومة، فإن كان الرجل وثنيًا يقبل الإيمان سريعًا، وإن كان مسيحيًا يصير أفضل.]

والخضوع هنا ليس عن خوف منه بل "في الرب" (كو ٣: ١٨)، إذ تستمده من خضوع الكنيسة لعريسها الرب يسوع (أف ٥: ٢٤). يقول القديس إكليمنضس السكندري:

[لقد قيل في الكتاب المقدس أن الله أعطى المرأة معينة للرجل. في رأيي أنه من الواضح أنها تقدر أن تقوم بعلاج جميع متاعب زوجها في تدبير خدمتها، وذلك خلال سلوكها الحسن وقدرتها.

فإن لم يخضع (متأثرًا بسلوكها) فإنها تسعى ما في استطاعتها أن تسلك في حياة طاهرة... آخذة في اعتبارها أن الله هو معينها والمساعد لها في سلوكها هذا، وأنه هو المدافع الحقيقي عنها، ومخلصها في هذه الحياة والحياة الأخرى.

لتأخذ الله قائدًا لها ومرشدًا لها في كل أعمالها، حاسبة الوقار والبرّ عملها، ناظرة إلى إحسانات الله غايتها.

بالنعمة يقول الرسول في رسالته إلى تيطس "كذلك العجائز في سيرة تليق بالقداسة غير ثالبات غير مُسْتَعْبَدات للخمر الكثير معلمات الصلاح. لكي ينصحن الحدثات أن يكن محبات لرجالهن ويُحْبِبْنَ أولادهن. متعقلات عفيفات ملازمات بيوتهن صالحات خاضعات لرجالهن لكي لا يُجدَّف على كلمة الله" (٢: ٣-5).]

ثانيًا: الاهتمام بالسيرة الحسنة

"لا تكن زينتكن الزينة الخارجية

من ضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب،

بل إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد،

زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن" [3-4].

يُقرأ هذا النص في قداسات تذكار انتقال المتبتلين... وكأن الكنيسة تريد أن توجه كل نفس لتتزين لعريسها ربنا يسوع بالزينة الداخلية.

وكما تتزين النفس المؤمنة لعريسها، تتزين المرأة الزانية بزينة خارجية لعريسها: "متسربلة بأرجوان وقرمز، ومتحلية بذهب وحجارة كريمة ولؤلؤ، ومعها كأس من ذهب في يدها، مملوء رجاسات ونجاسات زناها" (رؤ ١٧: ٤).

لتتزين أيضًا النساء لرجالهن، ولكن ليَعْلَمْن أن الرجال قد يُعْجَبْن بالزينة الخارجية لكن إلى حين، أما ما يجذب قلوبهم بحق فهو زينتهن الداخلية، بل وتجذب قلب المسيح أيضًا قائلاً: "ها أنت جميلة يا حبيبتي هذا أنت جميلة. عينيك حمامتان..." (نش ١: 15).

لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:

[أتريدين أن تكوني جميلة؟ تسربلي بالصدقة. البسي العطف، توشحي بالعفة. كوني خالية من التشامخ. هذه كلها أوفر كرامة من الذهب. هذه تُصَيِّر الجميلة جزيلة البهاء وغير الجميلة جميلة.

عندما تُغالين في التزين أيتها المرأة تكونين أشنع من العارية لأنكِ خلعتِ حسن الجمال...

قولي لي لو أعطاك أحد ثوبًا ملكيًا فأخذتيه ولبستِ فوقه ثوب العبيد، أما يكون لك خزي يليه عذاب؟ قد لبستِ سيد الملائكة، أترجعين إلى الأرض؟

قولي لي لماذا تتزينين، هل لكي ترضي زوجك؟ افعلي هذا في منزلك!]

ويرى القديس إكليمنضس السكندري أن الزينة الحقيقية للمرأة ليست التي من عمل الآخرين، أي الزينة الخارجية، بل التي تَتعب هي بنفسها فيها أي زينة الروح المجاهدة إذ يقول:

[لأن عمل أيديهن يَهَب لهن جمالاً خالصًا أكثر من كل شيء، فيدرِّبْن أجسادهن ويزيِّن نفوسهن بمجهوداتهن وليس من عمل الغير.

المرأة الصالحة تنسج بيديها ما تريد. فإنه غير لائق بمن قد تشكَّلت بصورة الله أن تتزين بالأمور التي تباع في السوق، بل بعملها الداخلي.]

"فإنه هكذا كانت قديمًا النساء القديسات أيضًا،

المتوكلات على الله يزين أنفسهن، خاضعات لرجالهن.

كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها

التي صرتن أولادها صانعات خيرًا، وغير خائفات خوفًا البتة" [5-6].

يضرب الرسول مثلاً بسارة زوجة أب المؤمنين، إذ كانت متزينة:

1. بالاتكال على الله، فلا تبالي بكلام الناس بل برضاء الله.

2. بالخضوع لرجلها، حيث كانت تدعو زوجها بمحبة "يا سيدي".

3. صانعة خير، أي مثابرة على ما هو لخلاص نفسها والاهتمام بمنزلها.

4. غير خائفة خوفًا البتة، لأن خضوعها لا عن خوف العبيد بل في حب زيجي.

ثالثا: علاقة الرجل بامرأته

"كذلك أيها الرجال كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف،

معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضًا معكم نعمة الحياة،

لكي لا تعاق صلواتكم" [7].

يُحمَّل الرسول الرجال مسئولية عدم خضوع نسائهم، لأن التعامل معهن يحتاج إلى فطنة أي حكمة.

يقول القديس إكليمنضس الروماني: [لنوجه نساءنا إلى ما هو صالح حتى يظهرن شخصية طاهرة نُعْجَب بها، فيُظْهِرْن مشاعر التواضع الحقيقي.]

وقد عدَّد الرسول الأسباب التي تدفع الرجل إلى تكريم زوجته فقال:

1. أنهن آنية ضعيفة، يحتَجْن إلى ترفّق حتى لا يهلكن.

2 أنهن أعضاء لنا، والرأس لا يكون مقدسًا ما لم تكن الأعضاء مكرمة.

3. أنهن شريكات معنا في الميراث الأبدي، بلا تمييز بين رجل وامرأة.

4. لكي نحفظ سلام القلب والبيت، فتخرج صلواتنا مملوءة حبًا، بروح واحد لا يعوقها غضب (١ تي ٢: ٨).

وأخيرًا بعدما تحدث الرسول عن العلاقات العائلية في المسيح يسوع قال:

"والنهاية كونوا جميعًا متحدي الرأي بحس واحد،

ذوي محبة أخوية مشفقين لطفاء" [8].

"والنهاية" أي غاية هذه الوصايا جميعها أن يكون ليس فقط بين الزوجين، بل نود أن يكون الكل برأي واحد (في ١: ٢٧) ومشاعر واحدة مملوءين حبًا أخويًا وحنوًا ولطفًا (في ٢: ٢).

هذه الوحدة طلبها الرب يسوع في صلاته الوداعية (يو ١٧: ٢١)، وأوصانا بها الرسول بولس قائلاً: "فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين" (رو ١٢: ١٥).

أما قوله "لطفاء" ففي الأصل اليوناني تعني أنها ناشئة عن التواضع أمام الله، وكان الرومان يحسبون اللطف عدم شهامة.

٢. علاقة المسيحي بالمضايقين له

يصعب على الإنسان أن يحب مضايقيه لكن في المسيح يسهل ذلك لأنه:

1. وارث للبركة، لا يخرج إلاَّ ما هو للبركة:

"غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة،

بل بالعكس مُبارِكين،

عالمين إنكم لهذا دُعيتم لكي ترثوا بركة" [9].

هذه هي دعوتنا أن نرث البركة، لهذا لا يليق بنا أن نُخْرِج من داخلنا إلاَّ ما هو للبركة، فلا نقاوم الشر بالشر بل نغلبه بالخير (رو ١٢: ٢١). فلم يعد غريبًا عنا أن ننفذ وصية الرب "باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم" (مت ٥: ٤٤).

2. لكي يتدرب هنا على تذوق السلام

"لأنه من أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة،

فليَكْفُفْ لسانه عن الشر،

وشفتيه عن أن يتكلما بالمكر.

ليُعْرِض عن الشر،

وليصنع الخير،

ليطلب السلام، ويجِدّ في أثره" [10-11].

هذا دافع آخر وهو أننا راحلون إلى أبديّة السلام. فنتدرب هنا على الأرض، كمن هم في مدرسة، على حياة السلام التي نحياها مع ملك السلام. فإذ نحب الحياة (الأبديّة) وأن نرى أيامًا صالحة ليس فيها شر، عربون للحياة الأخرى يليق بنا الآتي:

أ. نكْفُف لساننا عن الشر، أي نُعرِض عنه، كالعبد الذي يخاف سيده.

ب. نصنع الخير، كالأجير الذي ينتظر مكافأة.

ج. وأخيرًا نطلب السلام ونجدّ في أثره، ليس خوفًا ولا من أجل الأجرة، لكن كأبناء لملك السلام لا نحيا ولا نريد إلاَّ أن نتذوق السلام!

يقول القديس دوروثيؤس:

[لقد عبَّر النبي داود عن هذا التسلسل في قوله التالي: "حد عن الشر واصنع الخير. اطلب السلامة واسعَ وراءها" (مز ٣٤: ١٤). "حد عن الشر"، أي تجنب الشر كله بصفة عامة. اهرب من كل عمل يدفعك نحو الخطية. لكن النبي لم يقف عند هذا الحد، بل أضاف قائلاً: "واصنع الخير"، لأنه أحيانًا لا يصنع إنسان شرًا ولكنه لا يصنع أيضًا خيرًا... وإذ قال داود هذا أكمل: "اطلب السلامة واسعَ وراءها". إنه لم يقل فقط "اطلب" بل "اسعَ وراءها" أي مجاهدًا لنوالها.

فكر في هذه الكلمات بتدقيق، ولاحظ الدقة التي أظهرها القديس. فعندما يوهَب للإنسان أن يَحِدْ عن الشر، وبعون الله يجاهد لكي يصنع الخير، يمكنه أن يكون فريسة وموضوع هجوم العدو. لذلك عليه أن يتعب ويجاهد ويحزن، مرة كعبد بدافع الخوف حتى لا يرتد إلى الشر مرة أخرى، ومرة كأجير طالبًا المكافأة عن صنع الخير... ولكن عندما يتقبل معونة الله ويحصل على عادة معينة في صنع الخير، عندئذ يجد راحة (في صنع الخير) ويتذوق السلامة. عندئذ يختبر ماذا تعني تلك المعركة المحزنة، وما هو معنى فرح السلامة وسعادتها، عندئذ "يطلب السلامة" ويجاهد مثابرًا في داخله.]

يقول القديس أغسطينوس: [إنه سيكون لنا السلامة الكاملة عندما تلتصق طبيعتنا دون أن تنفصل عن خالقها، فلا يكون لنا في أنفسنا ما يضاد أنفسنا.]

إذن بترك الشر وصنع الخير تصير لنا السلامة، وهذا هو تدريبنا على الأرض.

3. لكي يرضي الرب

"لأن عيني الرب على الأبرار، وأذنيه إلى طلبتهم،

ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر" [12].

وهنا لا يقصد الرسول أن الله لا ينظر إلى الأشرار أو يختفي حديثهم عن أذنيه، لكنه يقصد بالنظر والسمع الاستجابة لهم. غاية المؤمن أن يكون موضوع رضا الرب وسروره. فليس بالكثير عليه أن يقابل الشر بالخير، ويحب مضايقيه مادام هذا يرضي الرب.

4. لأنه لا يقدر أحد أن يؤذيه

يدرك المؤمن هذه الحقيقة، أنه لا يقدر أحد من البشر ولا تستطيع الأحوال مهما قست والضيقات مهما اشتدت أن تؤذي نفسه، ما لم يؤذِ الإنسان نفسه بنفسه، بتركه صنع الخير. لهذا لا يضطرب من أحدٍ، بل يحب حتى الذي يريد قتله، متأكدًا أنه لا يقدر أن يحرمه من صنع الخير، وبالتالي كلما اشتدت الآلام حوله تزايدت أكاليله.

"فمن يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير.

ولكن إن تألمتم من أجل البرّ فطوباكم" [13].

كتب القديس يوحنا الذهبي الفم كتابًا عنوانه "لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذِ هذا الإنسان نفسه" كشف فيه أنه لا يقدر شيطان أو ظلم أو مرض أو موت أو فقر أن يؤذي أحدًا ما لم يؤذ الإنسان نفسه بصنع الشر، بل بالعكس نجد الآلام طَوَّبَت أيوب، والفقر أفاد لعازر، والرياح والأمطار أكدت ثبوت البيت المبني على الصخر (مت ٧: ٢٤).

إن الحاسد لا يؤذي من يحسده بل يؤذي نفسه، والظالم يقتل نفسه ولا يهلك من يظلمه. وهكذا فإن الألم لا يجلب ضررًا، بل تطويبًا لمن يحتمله من أجل البر.

5. تعطي فرصة للكرازة

"وأما خوفهم فلا تخافوه ولا تضطربوا.

بل قدسوا الرب الإله في قلوبكم،

مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم

بوداعة وخوف" [14-15].

اقتبس الرسول هذا القول عن إشعياء النبي (8: 12-13). يطالب الرسول المؤمن ألا يخاف ممن يضايقونه ولا يضطرب منهم. والدافع لهذا هو تقديس الرب الإله في القلب. لأن من يقدس الرب الإله في قلبه لا يخاف البشر بل الله. ومن يخاف الله دون البشر يكون بهذا مُقَدِّسًا الرب في قلبه... وهذا خير كرازة وشهادة عملية للرب، وإجابة حقة لمن يسأله عن سبب الرجاء الذي فيه، محتملاً المضايقة بوداعة ومخافة الرب.

هكذا يَشْتَّمونَ رائحة المسيح الذكية في سيرة المؤمن الصالحة عندما يُفترى عليه ظلمًا، فيحتمل بضميرٍ صالح بغير رغبة في الانتقام، ولكن حبًا في خلاص الكل.

+ + +

الأبركسيس .. أعمال 21 : 5 – 14

5 و لكن لما استكملنا الايام خرجنا ذاهبين و هم جميعا يشيعوننا مع النساء و الاولاد الى خارج المدينة فجثونا على ركبنا على الشاطئ و صلينا
6 و لما ودعنا بعضنا بعضا صعدنا الى السفينة و اما هم فرجعوا الى خاصتهم
7 و لما اكملنا السفر في البحر من صور اقبلنا الى بتولمايس فسلمنا على الاخوة و مكثنا عندهم يوما واحدا
8 ثم خرجنا في الغد نحن رفقاء بولس و جئنا الى قيصرية فدخلنا بيت فيلبس المبشر اذ كان واحدا من السبعة و اقمنا عنده
9 و كان لهذا اربع بنات عذارى كن يتنبان
10 و بينما نحن مقيمون اياما كثيرة انحدر من اليهودية نبي اسمه اغابوس
11 فجاء الينا و اخذ منطقة بولس و ربط يدي نفسه و رجليه و قال هذا يقوله الروح القدس الرجل الذي له هذه المنطقة هكذا سيربطه اليهود في اورشليم و يسلمونه الى ايدي الامم
12 فلما سمعنا هذا طلبنا اليه نحن و الذين من المكان ان لا يصعد الى اورشليم
13 فاجاب بولس ماذا تفعلون تبكون و تكسرون قلبي لاني مستعد ليس ان اربط فقط بل ان اموت ايضا في اورشليم لاجل اسم الرب يسوع
14 و لما لم يقنع سكتنا قائلين لتكن مشيئة الرب

في أورشليم

يقدم لنا الإنجيلي لوقا تكملة الرحلة الكرازيّة الثالثة للقدّيس بولس. وقد ركّز الكاتب على استخدام اللَّه الأحداث التي تبدو مرة للغاية ليدفع ببولس إلى روما حتى يشهد هناك في القصر الإمبراطوري، في عاصمة العالم في ذلك الحين.

ابرز الكاتب تحدّي الرسول بولس للضيقات حتى الموت من أجل الكرازة، وخضوعه للمشورة المقدّمة له في أورشليم والتي كانت تدفع إلى قتله عند الهيكل، لكن اللَّه استخدمها لينطلق إلى روما.

إلى صور

"ولمّا انفصلنا عنهم،

أقلعنا وجئنا متوجهين بالاستقامة إلى كوس،

وفي اليوم التالي إلى رودس ومن هناك إلى باترا". [1]

إذ ودع القديس بولس الكهنة الذين جاءوا من أفسس إلى مليتس لكي ينطلق إلى أورشليم، صار على كل فريق أن يترك الآخر. لم يكن من الهين عليه أو عليهم أن يتركهم بسبب رباط الحب القوي. لذا يقول القديس لوقا: "لما انفصلنا"، وقد جاء التعبير كما لو كان انطلاق الرسول ومن معه قد تم بالقوة.

انطلق القديس بولس ومن معه مبحرين في قارب بين الجزائر والشواطئ، فكوس ورودس جزيرتان. هذا وأن رودس هو أيضا اسم مدينة على شاطئ الجزيرة التي تحمل ذات الاسم.

كوس: جزيرة صغيرة في المجموعة الجزرية البحرية واليونانية وهي قريبة من جنوب غرب آسيا الصغرى، تدعي الآن ستانكو Stanco، مشهورة بخصوبة أرضها وإنتاجها للخمر والحرير، تبعد حوالي 40 ميلاً من ميليتس.

رودس: وهي أيضًا من مجموعة الجزر البحرية اليونانية تضم مدينة تحمل ذات الاسم، مشهورة بتمثالها النحاسي الضخم، قام ببنائها شاريس لينديوس Chares Lyndus تًعرف بارتفاعها الشاهق، تسير السفن في وسطها كما بين أقدامها. دامت 56 عامًا، ودمرها زلزال. كانت تحسب أحد عجائب الدنيا السبع. عندما استولى عليها العرب المسلمون باعوا التمثال الساقط لرجلٍ يهوديٍ حمل نحاسه على عدة جمال، وكان ذلك عام 600 م أي بعد دمارها بحوالي 900 عامًا. اسمها استيريا Asteria، أما تسميتها رودس، فجاء من كثرة إنتاجها للورود.

باترا: مدينة بحرية لليسيا Lycia، بآسيا الصغرى.

"فإذ وجدنا سفينة عابرة إلى فينيقية،

صعدنا إليها وأقلعنا". [2]

في بترا وجدوا سفينة مبحرة إلى فينيقية، تاركين جزيرة قبرص على شمالهم بهذا لم يعد الرسول بولس يتعجل السفر إلى أورشليم لكي يبلغها في عيد الخمسين.

"ثم اطلعنا على قبرس،

وتركناها يَسرةً،

وسافرنا إلى سورية،

وأقبلنا إلى صور،

لأن هناك كانت السفينة تضع وسقها". [3]

تركوا قبرص مبحرين إلى سوريا حيث نزلوا في صور لتفريغ البضائع. فقد كانت صور إحدى المدن التجارية الرئيسية في العالم، وقد بقيت هكذا حتى في أيام القديس بولس.

مشورة الإخوة له

"وإذ وجدنا التلاميذ مكثنا هناك سبعة أيام،

وكانوا يقولون لبولس بالروح

أن لا يصعد إلى أورشليم". [4]

لم يعد يتعجل الرحلة، ففي صور حيث كان يلزم الانتظار سبعة أيام لتفريغ السفينة من البضاعة وجدوا تلاميذ قبلوا الإيمان، تعبير "وجدنا" يشير إلى اهتمام القديس بولس ومن معه بالبحث عن المؤمنين أينما وُجدوا، ليلتصقوا بهم ويتعبدوا معًا، ويتعزوا بعمل الله الدائم في كل موضع.

في عصر السيد المسيح لم تكن صور مستعدة لقبوله إذ قال: "ويل لكِ يا بيت صيدا، لأنه لو صنعت في صور وصيدا القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديمًا جالستين في المسوح والرماد، ولكن صور وصيدا يكون لهما في يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لكما" (لو 10: 13-14). الآن صار في صور تلاميذ للرب يسوع، التصقوا بالرسول بولس وترجوه أن يبقى معهم ولا يصعد إلى أورشليم.

يرى البعض أنه قد تحققت النبوة عن صور: "وتكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب" (إش 23: 18).

لعله بقي سبعة أيام حتى يجد فرصة للعبادة مع جميع المؤمنين في يوم الرب والكرازة بينهم.

نال بعض مؤمني صور مواهب معينة حتى استطاعوا أن يتنبأوا بالروح عن متاعب القديس بولس التي سيلاقيها في أورشليم، إذ كان الروح القدس يشهد بهذا في كل مدينة (أع 20: 23).

ماذا يعني: "يقولون لبولس بالروح أن لا يصعد إلى أورشليم"؟

1. كانوا يتنبأون بالروح عن المتاعب التي ستلاقيه في أورشليم، متوسلين إليه ألا يصعد، حاسبين أن كثيرين محتاجين إلى خدمته وكرازته.

2. لا يفهم من هذا أن الروح قد أصدر إليه أمرًا بعدم الصعود إلى أورشليم. وقد أدرك الرسول بولس أن ما فعلوه هو من قبيل غيرتهم وحبهم له، فالروح كشف المتاعب، أما عدم الصعود فكان رجاء من الشعب حفظًا على حياته من المخاطر.

العجيب إن الروح القدس الذي وهب بولس أن يصنع عجائب فوق العادة في أفسس (أع 19: 11) نراه هنا في صور وقد مكث معه التلاميذ، وتنبأوا له بالروح عن المتاعب التي سيلاقيها في أورشليم، وطلبوا منه ألا يصعد إليها. لم يكشف الروح لبولس الرسول مباشرة عما سيلاقيه بل اخبره خلال التلاميذ. فمع ما ناله القديس بولس من مواهب وعطايا ونعم وما تمتع به من نجاحٍ فائقٍ، لكن ما أخفي عنه (أع 20: 22) أعلنه الروح للتلاميذ، حتى يشعر الكل بالحاجة إلى بعضهم البعض. لقد تنبأ عن ذلك أغابوس بعد ذلك في بيت فيلبس المبشر (أع 21: 10-11).

"ولكن لمّا استكملنا الأيام خرجنا ذاهبين،

وهم جميعًا يشيعوننا مع النساء والأولاد إلى خارج المدينة،

فجثونا على ركبنا على الشاطئ، وصلينا". [5]

لم يقبل التلاميذ في صور الإيمان على يدي بولس الرسول، ومع هذا فقد اظهروا تقديرًا وحبًا شديدًا له، حتى أنه بعد خدمته بأسبوع واحد خرج الكل رجالاً ونساء وأطفالاً يودعونه، يطلبون بركة الرب خلاله، كما يصلون من أجله. هنا أظهر هذا الشعب حبًا لخدام الكلمة دون تعصبٍ لخادمٍ معينٍ؛ وشعروا بالالتزام أن يصلوا من أجل الخدام والخدمة. هذا وقد نجحوا في تدريب أطفالهم على حمل ذات الروح والشركة في ذات العمل. لقد تحققت فيهم النبوة: "بنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهه بهدية" (مز 45: 12). ما هذه الهدية التي قدمتها الكنيسة "بنت صور" الغنية لعريسها سوى الحب الصادق للكلمة والخدام، والوحدة للعمل بروحٍ واحدٍ، وتقديم صلوات حتى على الشاطئ من أجل الخدمة والخدام، وأخيرًا قدموا أروع عملٍ وهو أنهم قدموا أطفالهم للرب شركاء معهم في ذات الروح وذات العمل!

في ميلتيس جثا رجال الكهنوت على ركبهم يصلون عند توديعهم للرسول بولس ومن معه (أع 20: 36)، وهنا في صور جثا الشعب الرجال مع النساء والأطفال يمارسون ذات العمل، وبذات الروح.

ركع الكل على شاطئ الميناء الذي بلا شك كان مرصوفًا بالحجارة، وقد امتلأ ترابًا بسبب نقل البضائع، لكن الكنيسة تحول كل موضع، أيا كان حاله، كما إلى مقدس للرب بالركوع للصلاة في كل حين وفي كل موضع.

الركوع للصلاة عمل لا يفارق الكنيسة، يمارسه المؤمن أينما وجد. يقول جورج هربرت: "الركوع لن يفسد الجوارب الحريرية".

+ إنّنا نحني ركبنا، لأن الركب المنحنية تهيئ للإنسان نوال المغفرة من الله، وتنزع غضبه، ويتمتع بقبوله النعمة، أكثر من جميع حركات الجسم الأخرى.

القديس أمبروسيوس

+ كان (قسطنطين) يدخل مخدعه الخاص في القصر في ساعات معيّنة من النهار، ويغلق على نفسه ليناجي الله، ويظل راكعًا متضرّعًا من أجل شئون مملكته.

يوسابيوس القيصري

+ تأمرنا الكنيسة أن نرفع الصلوات لله بلا انقطاع وبكل توسّل، راكعين في الأيّام المحدّدة ليلاً ونهارًا!

القدّيس أبيفانيوس

+ تحوّل من مضطهد إلى كارز ومعلّم للأمم (2 تي1: 11)، يقول: "كنت قبلاً مجدّفًا ومضطهدًا ومفتريًا". أمّا سبب نوالي الرحمة فهو "ليُظهر يسوع المسيح فيّ أنا أولاً كل أناة، مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبديّة" (1 تي 1: 16). إننا بنعمة الله كما ترون نخلص من خطايانا، التي فيها نحن نضعف. الله وحده هو الدواء الذي يشفي النفس. فالنفس قادرة بحق أن تؤذي نفسها، هكذا أيضًا الناس في قدرتهم أن يصيروا مرضى، لكن ليس ليهم ذات القدرة لكي يصيروا إلى حال أفضل.

القديس أغسطينوس

"ولمّا ودّعنا بعضنا بعضًا صعدنا إلى السفينة،

وأمّا هم فرجعوا إلى خاصتهم". [6]

في جوٍ من الحب الروحي العجيب تم الوداع لينطلق القديس بولس ومن معه في السفينة بشكرٍ وفرحٍ مع ما ينتظرونه من مضايقات، ورجع الشعب، كل إلى بيته بروح الفرح والشكر على عمل الله الدائم بواسطة خدامه وشعبه. وكما قال موسى النبي وهو يبارك الأسباط: "افرح يا زبولون بخروجك، وأنت يا يساكر بخيامك" (تث 33: 18). فقد انطلق بولس الرسول ومن معه متهللين بصلوات الشعب من أجلهم، وعاد الشعب إلى بيوتهم حاملين بركة الرسول بولس وصلواته عنهم.

نبوّة أغابوس في قيصريّة

"ولمّا أكملنا السفر في البحر من صور،

قبلنا إلى بتولمايس،

فسلَّمنا على الإخوة،

مكثنا عندهم يومًا واحدًا". [7]

بتولمايس: عكا، وهي مدينة قديمة منذ أيام حكم القضاة (قض 1: 31)، إحدى مدن سبط أشير، لها سمعتها منذ العصور الوسطى، وهي أحد محطات الحروب الصليبية، وقد دعوها باسم القديس يوحنا St. Jeane d'Acre ، أي أكرا، حيث بنوا فيها قلاعًا وحصونًا بحرية ضخمة، وهي متاخمة لجبل الكرمل.

حين زارها الرسول بولس كانت تُدعى بتولمايس، نسبة لأحد ملوك البطالسة، حيث قام بتجميلها، وكانت في أيام الرسول حائزة على الحكم الكولوني.

نزل الرسول بولس فيها، وسلم على الإخوة، مما يشير إلى وجود كنيسة لها علاقة بالرسول بولس؛ وقد بقي عندهم يومًا واحدًا ثم فارقها إلى قيصرية.

"ثم خرجنا في الغد نحن رفقاء بولس،

وجئنا إلى قيصرية،

فدخلنا بيت فيلبس المبشّر،

إذ كان واحدًا من السبعة،

وأقمنا عنده". [8]

إذ جاء القديس بولس ورفقاؤه إلي قيصرية استضافهم فيلبس الذي كان مشهورًا بالمبشر، وهو أحد السبعة شمامسة الذين اختارهم الشعب لخدمة الأرامل (أع 6: 3 الخ). وهو الذي بشّر في السامرة (أع 8: 55 الخ)، وبشّر الخصي الأثيوبي (أع 8: 26)، وفي المدن التي على الساحل في طريقه من أشدود إلى قيصرية (أع 8: 40). وقد جعل مقره في قيصرية. دُعي المبشر ربما تمييزًا له من فيلبس الرسول.

يندر أن نجد الرسول بولس ينزل في مكان عام؛ لكنه غالبًا ما كان ينزل ضيفًا لدى أحد أحبائه أو أصدقائه، إذ كان الكل يجدون راحة في نزوله عندهم لا للاستضافة، ولكن كان يحول البيت إلى كنيسة ومركز عمل كرازي روحي وتعبدي.

كان لدى فيلبس المبشر بيت يمكن للقديس بولس ورفقائه أن يقيموا معه فيه، كما يمكن استيعاب القادمين للقاء معهم، وكأن بيته كان مركز خدمة.

"المبشر": أي الكارز بالأخبار السارة أو بالإنجيل، وقد ورد هذا التعبير مرتين أيضًا (أف 4: 11، 2 تي 4: 5). لم يُذكر عن بقية الشمامسة السبعة أنهم حملوا هذا اللقب. لكننا رأينا في حياة القديس استفانوس أنه كان كارزًا في المجامع يحاور اليهود الذين من مناطق أخرى مثل الإسكندرية وكيليكية وروما الخ. لا يمكننا القول بأن التبشير ليس من عمل الشمامسة، فإن كل مؤمنٍ ملتزم بالشهادة لإنجيل المسيح متى حانت له فرصة.

"وكان لهذا أربع بنات عذارى كن يتنبأن". [9]

تمتعت بنات فيلبس العذارى بموهبة النبوة. لقد سبقهن البعض وتنبأوا له عما سيحل به من متاعب في أورشليم. هذا التكرار في أكثر من موضع كان لتشجيع الرسول بولس وراحته، حيث يؤكد له الروح القدس أن ما سيحدث هو بسماحٍ إلهيٍ. كما يزكيه أمام الكنيسة في بلاد كثيرة لكي لا يضطرب المؤمنون حين يسمعون ما يحل به؛ مدركين أنه وهو عالم بما سيحدث ذهب بكامل حريته متهللاً من أجل شركته في صليب الرب.

كأننا في عهد الأنبياء، فقد تتلمذت الأربع بنات العذارى على يدي أبيهن فيلبس الرسول، ونلن موهبة النبوة.

+ لقد أعجبت بغيرة حنة ابنة فينوئيل التي استمرت حتى شيخوخة متأخرة تخدم الرب في الهيكل بالصلوات والأصوام (مت 11: 7- 14). عندما فكرت في الأربع عذارى بنات فيلبس (أع 21: 9) اشتاقت أن تلحق بجماعتهن، وأن تحسب مع أولئك الذين بطهارتهن البتولية نلن نعمة النبوة.

القديس جيروم

+ إن كان الأمر هكذا (أن تصمت النساء في الكنيسة 1 كو 14: 34)، فماذا نفعل بخصوص الحقيقة أن فيلبّس كان له أربع بنات تنبّأن؟ فإن كنّ قادرات على فعل هذا، فلماذا لا نسمح لنبيّاتنا أن يتكلّمن؟ نجيب على هذا السؤال هكذا: أولاً إن كانت نبيّاتنا يتنبّأن، فليظهرن علامات النبوّة فيهنّ. ثانيًا حتى إن كانت بنات فيلبّس قد تنبّأن، فإنهنّ لم يفعلن هذا داخل الكنيسة. هكذا كان الحال في العهد القديم، فمع أن دبّورة قد اشتهرت كنبيّة (قض 4: 4)، لا توجد إشارة أنها خاطبت الشعب المجتمع معًا بنفس الطريقة التي فعلها إشعياء أو إرميا. نفس الأمر حقيقي بالنسبة لهلدة (2 مل 22: 14؛ 2 أي 34: 22).

العلامة أوريجينوس

+ الآن أيضًا النساء يتنبّأن. في القديم مريم أخت موسى وهرون، وبعدها دبّورة (قض4: 4)، وبعدهما هلدة (2 مل 22: 14)، ويهوديت (يهوديت 8: 11) - الأولى في ايّام يوشيا والأخيرة في أيام حكم داريوس. تنبّأت والدة الرب أيضًا، ونسيبتها أليصابات وحنّة (لو1: 46؛ 2: 38)؛ وفي أيامنا بنات فيلبّس. لكن هؤلاء لم يكن يتشامخن على أزواجهنّ، بل يحفظن قدرهن.

"وبينما نحن مقيمون أيامًا كثيرة،

انحدر من اليهودية نبي اسمه أغابوس". [10]

كان الوقت لدى الرسول بولس ثمينًا للغاية، فكان يحسب خدمته في أية مدينة بالأيام، ليس في أيامه يوم واحد بلا عمل، حتى وإن كان داخل السجن، أو أثناء تفريغ سفينة الخ.

كان لأغابوس موهبة النبوة، فقد سبق أن نزل من أورشليم إلي أنطاكية وتنبأ عن المجاعة العامة (أع 11: 27-28).

"فجاء إلينا،

وأخذ منطقة بولس،

وربط يديّ نفسه ورجليه، وقال:

هذا يقوله الروح القدس:

الرجل الذي له هذه المنطقة،

هكذا سيربطه اليهود في أورشليم،

ويسلمونه إلى أيدي الأمم". [11]

لم يعد بعد الرسول متعجلاً في الذهاب إلى أورشليم، لذلك أقام أيامًا كثيرة في قيصرية. وقد جاء إليه أغابوس النبي، كما كان يفعل أنبياء العهد القديم. ربط نفسه بمنطقة بولس الرسول وتنبأ أيضًا عما سيفعل به اليهود في أورشليم. هذا عادة الأنبياء أن يمارسوا أعمالاً رمزية للكشف عن أحداث مقبلة. كمثال دفن إرميا النبي منطقته عند الفرات إشارة إلى سبي اليهود (إر 13: 4)، كما صنع لنفسه أربطة وانيارًا ووضعها على عنقه، ثم بعث بها إلى ملوك أدوم وموآب وبني عمون وصور وصيدون، ليعلن لهم أن نبوخذنصر سينتصر عليه ويستعبد هذه الأمم (إر 27: 2-7). وأيضًا إذ نزل إرميا النبي إلى بيت الفخاري، وصنع إناءً من الطين قد فسد ثم أعاد تشكيله إشارة إلى ما سيحل على أمة اليهود من دمارٍ (إر 18: 4). تعرى أيضا إشعياء من ثوبه الخارجي، وسار حافي القدمين، رمزًا لسبي مصر وكوش (إش 20: 3-4). أما حزقيال فيُدعى النبي الرمزي من كثرة أعماله وتصرفاته الرمزية التي تحمل نبوات.

"فلما سمعنا هذا،

طلبنا إليه نحن والذين من المكان،

أن لا يصعد إلى أورشليم". [12]

هنا نلاحظ أن القديس لوقا نفسه ومن معه من مرافقي الرسول بولس وأيضًا من المؤمنين المقيمين في قيصرية قد اتفقوا معًا في الطلب من الرسول بولس ألا يصعد إلى أورشليم. مع تأكيد القديس لوقا والذين معه أن الرسول يتحرك بتوجيه إلهي، لكن من أجل محبتهم للرسول واستمرارية خدمته طلبوا هذا. وحسب الرسول ذلك حبًا، لكنه يحمل ضعفًا، فهو مستعد لا أن يُقيد فقط بل وأن يموت من أجل اسم الرب يسوع بفرحٍ وسرورٍ.

+ حاولوا أن يحفظوه، لا بقصد إقناعه أن يعدل عن ذهابه (حيث يتعرض للضيق)، وإنما ليظهروا له الحب، فهم يشتاقون أن تحفظ حياة الرسول (للخدمة) لكنهم لا يشيرون عليه أن يرفض الاستشهاد.

العلامة ترتليان

"فأجاب بولس:

ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي،

لأني مستعد ليس أن أربط فقط،

بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع". [13]

إنه يعلم بصدق محبتهم الملتهبة نحوه وشوقهم الشديد لاستمرارية عمله، لكنه انتهرهم لأنه يطلب إتمام مشيئة الله فيه بالشركة مع المصلوب في آلامه بل وفي موته. لم يحتمل أن يرى دموعهم من أجله فحسب قلبه منكسرًا، لكنه لم يجارهم تصرفهم بل بالحب والشجاعة في الرب رفعهم ليدركوا قيمة الألم من أجل الرب.

كان القديس بولس رقيق المشاعر جدًا، لا يحتمل رؤية دموع أحدٍ، لكنها رقة في الرب. لقد مزقت الدموع قلبه، لكنها لم تقدر أن تحوله عن طريق الصليب.

حمل القديس أغناطيوس الأنطاكي ذات الروح حين كتب إلى أهل رومية طالبًا منهم ألا يظهروا المحبة في غير أوانها، حيث كانوا يبذلون كل الجهد لمنع استشهاده.

+ لا أطلب إليكم سوى أن أكون سكيبًا لله مادام المذبح معدًا... أطلب إليكم ألا تظهروا لي عطفًا في غير أوانه، بل دعوا الوحوش تأكلني، التي بواسطتها يوهب لي البلوغ إلى اللَّه. أنّني حنطة اللَّه. اتركوني أُطحن بأنياب الوحوش لأصبح خبزًا تقيًا للمسيح. هيِّجوا هذه الوحوش الضارية لتكون قبرًا لي، ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما مُت لا أُتعب أحدًا، فعندما لا يعود العالم يرى جسدي أكون تلميذًا حقيقيًا للمسيح.

+ أرجو أن أحظى بمعونة صلاتكم، بمجابهة الوحوش في روما لأتمكّن من أن أكون حقًا تلميذ المسيح.

+ هيِّجوا هذه الوحوش الضارية لتكون قبرًا لي، ولا تترك شيئًا من جسدي... حينئذ أصير تلميذًا حقيقيًا ليسوع المسيح عندما لا يرى العالم جسدي... صلّوا إلى المسيح من أجلي حتى عندما أعدّو بفضل الوحوش الضارية ضحيّة إلهي.

القديس أغناطيوس الأنطاكي

لم يجد الرسول بولس في هذا الوصف ما يفزعه، ولا ما يستحق التفكير فيه، إنما بروح القوة التي يتمتع بها خلال النعمة الإلهية حسب ذلك تكميلاً لآلام المسيح ومشاركة حب مع المصلوب. إنها فرصة ممتعة أن ينفتح الباب لينطلق ويكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا (في 1: 23).

في رسالة إلى هيليودورس Heliodorus كتب القديس جيروم معبرًا عن ضرورة السمو فوق العواطف البشرية خلال محبة الله. [أجاب بولس على الإخوة الذين جاهدوا في منعه من الصعود إلى أورشليم: "ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي. لأني مستعد ليس أن أربط فقط، بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع" (أع 21: 13). فالعاطفة الطبيعية التي غالبًا ما تتلف الإيمان، يلزم أن ترتد بلا قوة من حصن الإنجيل "أمي واخوتي هم الذين يعملون مشيئة أبي الذي في السماوات" (لو 8: 21؛ مت 12: 50). إن كانوا يؤمنون بالمسيح فليأمروني إذ أذهب لأحارب باسمه، وإن كانوا لا يؤمنون "دع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 22).]

+ يا لروعة أن يوصيهم أن يتغلّبوا برجولة على كل اضطهاد، وأن يجتازوا التجارب بجسارة... إن كان إنسان ما مستعدًا أن يحتمل مخاوف الموت ويزدري بها، فهل لو وضع نفسه ورحل أفلا يبقى له شيء مذخّرًا له؟ لأنه فيما هو يضع نفسه يجدها بنوعٍ ما، بينما لو وجد حياته يجلب الهلاك لنفسه. لهذا أي خوف يمكن أن يشعر به القدّيسون إن كان ما يبدو قبلاً أنه صعب يكون لهم مفرحًا أن يحتملوه.

القديس كيرلس الكبير

"ولمّا لم يقنع، سكتنا قائلين:

لتكن مشيئة الرب". [14]

واضح أنهم كانوا يلحون على الرسول بولس ألا يصعد إلى أورشليم، لكنهم إذ رأوا إصرار الرسول بولس مع قبوله هذه النبوة بفرحٍ أدركوا أن هذه هي مشيئة الله، فخضعوا لها. لقد أدركوا أن قرار الرسول ليس عن اعتداد في نفسه أو كبرياء ولا عن تهورٍ، لكنه دخول في طريق الصليب بفرحٍ مع تسليم كل شيء في يدي الله. كما لم يتلمسوا أدنى تردد أو تخوف مما سيحدث، فلمسوا يد الله العاملة في قلبه وفكره وكل حياته.

+ + +

إنجيل القداس ... متى 25 : 1 – 13

1 حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى اخذن مصابيحهن و خرجن للقاء العريس
2 و كان خمس منهن حكيمات و خمس جاهلات
3 اما الجاهلات فاخذن مصابيحهن و لم ياخذن معهن زيتا
4 و اما الحكيمات فاخذن زيتا في انيتهن مع مصابيحهن
5 و فيما ابطا العريس نعسن جميعهن و نمن
6 ففي نصف الليل صار صراخ هوذا العريس مقبل فاخرجن للقائه
7 فقامت جميع اولئك العذارى و اصلحن مصابيحهن
8 فقالت الجاهلات للحكيمات اعطيننا من زيتكن فان مصابيحنا تنطفئ
9 فاجابت الحكيمات قائلات لعله لا يكفي لنا و لكن بل اذهبن الى الباعة و ابتعن لكن
10 و فيما هن ذاهبات ليبتعن جاء العريس و المستعدات دخلن معه الى العرس و اغلق الباب
11 اخيرا جاءت بقية العذارى ايضا قائلات يا سيد يا سيد افتح لنا
12 فاجاب و قال الحق اقول لكن اني ما اعرفكن
13 فاسهروا اذا لانكم لا تعرفون اليوم و لا الساعة التي ياتي فيها ابن الانسان

انتظار الملكوت

يقدّم لنا السيِّد المسيح، وهو في أورشليم كحملٍ محفوظٍ لتقديمه ذبيحة فصح عنّا، مفاهيم حيّة للملكوت الذي ننتظره، ليس كشيء خارج عنّا إنّما نتقبّله امتدادًا للعربون الذي فينا.

العذارى الحكيمات

في منتصف كل ليل يقرأ المؤمن هذا الفصل من الإنجيل في الخدمة الأولى من صلاة نصف الليل، ليتعرّف على سرّ وقوفه للصلاة ألا وهو انتظار العريس، مهتمّا أن يكون كإحدى العذارى الحكيمات اللواتي يدخلن العرس الأبدي. إنه يقول: "ها هوذا الختن (العريس) يأتي في نصف الليل، طوبى للعبد الذي يجده مستيقظًا. أمّا الذي يجده متغافلاً، فإنه غير مستحق المُضيّ معه. فانظري يا نفسي لئلاّ تثقلي نومًا فتُلقي خارج الملكوت، بل اسهري واصرخي قائلة: قدّوس، قدّوس، قدّوس، أنت يا الله من أجل والدة الإله ارحمنا".

ليقف المؤمن في الحضرة الإلهيّة مشتاقًا أن يقدّم حواسه الخمس مقدّسة له، بكونها العذارى الحكيمات اللواتي أخذن زيتًا في آنيتهن مع مصابيح ينتظرن العريس. حقًا إن العذارى الحكيمات يقفن جنبًا إلى جنب مع الجاهلات، كلهُنّ عذارى ومعهُن مصابيحهِّن، كلهُن نعسْنَ ونِمن [5]، لكن الحكيمات يحملن زيتًا تفتقر إليه الجاهلات.

يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في هذا الزيت إشارة إلى الأعمال الصالحة والمقدّسة التي تميّز الإيمان الحيّ من الميّت. فالمؤمن يقدّم بالروح القدس حواسه مقدّسة للعريس بالإيمان العامل بالمحبّة (غل 5: 6). يتقدّم للعريس حاملاً سماته عمليًا في كل أحاسيسه ومشاعره وتصرُّفاته. فإن أخذنا اللسان كمثال

يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [عندما يكون لسانك كلِسان المسيح، ويصير فمك فم الآب وتكون هيكلاً للروح القدس، عندئذ أيّة كرامة تكون هذه؟! فإنه وإن كان فمك مصنوعًا من الذهب ومن الحجارة الكريمة فإنه لن يضيء هكذا كما بحُليّ الوداعة. أيّ شيء أكثر حبًا من الفم الذي لا يعرف أن يشتم، بل هو معتاد أن يبارِك وينطق بالكلمات الصالحة.]

أما الجاهلات فحملْنَ مصابيحهِّن لكنّهُن لم يستطعن أن يقتنين الزيت المقدّس أي الأعمال الصالحة بالرب، إنّما حملْنَ إيمانا ميّتًا وعبادات شكليّة، وإن ينتهي النهار حيث يمكن للإنسان أن يعمل يأتي الليل حيث لا مجال للعمل، ولا يمكن لأحد أن يستعير زيتًا من آخر فلا يقدرن أن يلتقين بالعريس، إذ يقول السيِّد: "وفيما هنَّ ذاهبات ليبتعْنَ جاء العريس والمستعدَّات دخلْن معه إلى العرس، وأُغلق الباب" [10].

إنهُن لا يلتقين بالعريس كالحكيمات، بل يبقين في الخارج حيث الباب المُغلق. حقًا سيظهر ابن الإنسان على السحاب ويتحدّث مع الأشرار ليدينهم لكنهم لا ينعمون بمجده ولا يُدركون أسراره، إنّما يرونه كابن الإنسان المُرهِب، ينظرون عينيه تتّقِدان نارًا. بمعنى آخر يمكننا القول بأن المجد الذي ينعم به القدّيسون يصير بالنسبة للأشرار موضوع خوف ورِعدة، فلا يرون في السيِّد أمجادًا بل رعبًا!

أما الحكيمات فإذ قلوبهِّن، أي عيونِهِّن الداخليّة، نقيّة يعاينَّ الله ويتمتّعنَ ببهائه كقول السيِّد: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8).

ما يحدث مع العذارى ليس بالأمر الجديد، إنّما هو اِمتداد لما مارسوه على الأرض، فإن الحكيمات يتمتّعن بالحياة الداخليّة الجديدة كحياة شركة واتّحاد مع العريس مارسوه على الأرض. أمّا الجاهلات فلا خبرة لهُن بالعريس، وإنما يعشن حتى على الأرض خارج الأبواب، حتى وإن كان لهُن مظهر الحياة التعبّديّة بل والكرازيَّة. الذي اختار هنا أن يدخل مع المسيح ليحيا للملكوت فمن حقّه أن يعاينه في الأبديّة وجهًا لوجهٍ، والذي قبِل لنفسه أن يبقى هنا خارجًا فلن يقدر أن يُعاين السيِّد كعريس ولا يدخل معه عرسه الأبدي، بكونه بعيدًا عن الملكوت!

ليس عجيبًا أن يقول السيِّد "إني ما أعرفكن"، لأنهُنَّ لم يدخلْنَ معه في شركة حقيقيّة ولا عاين مجده في داخلهِنَّ!

يُعلّق القدّيس أغسطينوس على مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، قائلاً:

[من هنَّ العشر عذارى اللاتي منهُنَّ خمس حكيمات وخمس جاهلات؟... هذا المثل أو هذا التشبيه لست أظن أنه ينطبق على أولئك النساء اللواتي يُدَّعينَ "عذارى" في الكنيسة من أجل قداستهِنَّ العظيمة، وإنما اعتقد أنه ينطبق على الكنيسة كلها... إنه لا ينطبق على الكهنة وحدهم الذين تحدّثنا عنهم بالأمس ولا على الشعب وحده وإنما على الكنيسة بأجمعها.

لماذا كان عدد كل منهُنَّ خمس؟... كل روح في جسد تعُرف برقم خمسة، إذ تستخدم الحواس الخمس، فالجسد لا يدرك شيئًا إلا عن طريق المدخل ذي الخمسة أبواب: النظر والسمع والشم واللمس والتذوّق. فمن يضبط نفسه في النظر والسمع والتذوّق واللمس والشم بعيدًا عمَّا هو غير طاهر يحمل لقب "عذراء".

إن كان من الصالح أن يحفظ الإنسان حواسه عن المثيرات الدنسة، وبذا يصير لكل نفس مسيحيّة لقب "عذراء"، فماذا إذن خمس منهُنَّ مقبولات وخمس مرفوضات؟

إنه لا يكفي أن يكُنّ عذارى وأن يحملن مصابيح، فهنّ عذارى لحفظهن من ملذّات الحواس الدنسة، ولهن مصابيح لأجل أعمالهن الصالحة التي يقول عنها الرب "فليُضيء نوركم قدَّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات" (مت 5: 16). مرّة أخرى يقول لتلاميذه: "لتكن أحقَّاؤكم ممنْطَقة وسُرُجِكم موقَدة" (لو 12: 35)، فبالأحقَّاء يعني البتولية والسُرُج الموقَدة يعني الأعمال الصالحة.

إن لقب "البتولية" عادة لا ينطبق على المتزوّجين، لكنّه هنا يعني بتولية الإيمان التي تمثِّل الطهارة المكلَّلة. لذلك لتعلموا يا اخوتي المقدَّسين أن كل إنسان وكل نفس لها الإيمان عديم الفساد الذي به تُمسِك عن الأشياء غير الطاهرة وبه تَصنع الأعمال الصالحة لا تُحسب خِلسَة أن تدعى عذراء، فكل الكنيسة التي يدخل في عضويَّتها عذارى وصبيان ومتزوِّجين ومتزوِّجات يطلق عليها لقب "عذراء"، كيف هذا؟ لتسمع قول الرسول عن الكنيسة عامة وليس عن النساء المتبتّلات وحدهُنَّ: "خطبتُكم لرجل واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2). ولأنه يجب الاحتراس من الشيطان مفسد الطهارة أردف الرسول قائلاً: "ولكنّني أخاف أنه كما خدعت الحيّة حواء بمكرها تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3). قليلون اقتنوا بتولية الجسد لكن يليق بالكل أن يقتنوا بتولية الروح. فإن كان التحفظ من الفساد أمرًا صالحًا لذلك تقبل النفس لقب البتولية، وإن كانت الأعمال الصالحة تستحق المديح وقد شُبِّهت بالمصابيح، فلماذا خمس منهُنَّ مقبولات وخمس مرفوضات؟... وكيف نميِّز بين الاثنين؟

يميّز بينهُنَّ بالزيت؛ هذا الزيت هو شيء عظيم وعظيم جدًا، ألا وهو المحبّة... يقول الرسول: "وأيضًا أُريكم طريقًا أفضل: إن كنت أتكلّم بألسِنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبّة فقد صرتُ نحاسًا يَطِن أو صنجًا يَرِن" (1 كو 12: 31؛ 13: 1).

هذه هي المحبّة، الطريق الأفضل، والتي شُبِّهت بالزيت، إذ يطفو على جميع السوائل. إن صبَبْت عليه ماءً يطفو الزيت....لأن "المحبّة لا تسقط أبدًا" (1 كو 13: 8).]

لقد حملت العذارى الحكيمات زيتًا هو المحبّة، لذلك حتى إن نِمنَ مع الجاهلات أي رقدْنَ في القبر (1تس4: 13) وإن أبطأ العريس في قدومه حيث تمر آلاف السنين من آدم إلى مجيئه، لكنّه في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير (1كو15: 52) إذ تسمع الحكيمات صوته يجدن الزيت معهُنَّ فيشعلن مصابيحهن، أمّا الجاهلات فيطلبن زيتًا ولا يجِدُن!

يرى القدّيس أغسطينوس: [أن هؤلاء الجاهلات يمثِّلْن النُسّاك الذين بسبب نسكهم صاروا عذارى، لكنهم كانوا يُرضون الناس لا الله؛ يحملون المصابيح ليمدحهم البشر، وليس لهم في داخلهم الزيت الذي يراه الله في القلب.]

بنفس الروح يحذّرنا القدّيس جيروم بقوله: [ربّما تُفقَد البتولية بمجرد فِكر. فالبتوليّون الأشرار هم البتوليّون بالجسد دون الروح، هؤلاء أغبياء ليس لهم زيت، لذا يطردهم العريس.]

+ + +