الخميس، 7 أكتوبر 2010

البطريرك البديل

By

Yasser Gobrial


1)

بينما كان نيافة الاسقف راكبا القطار المتجه الى مصر المحروسة فى يوم صيفى معتدل كان سعيدا وقلقا فى نفس الوقت .. فالخطوة التى اقدم عليها جديدة جدا ولم يسبق لها ان حدثت فى تاريخ الكنيسة .. حتى هو نفسه كان مترددا فى القبول .. ولكنه تشجع عندما وصله خطابات من اراخنة
الاقباط اعضاء المجلس الملى وخطاب من الحكومة عندها وافق ومضى فى طريقه تاركا شعبه وكنيسته فى صنبو ومضى الى القاهرة ورجعت به الذاكرة الى بداية رهبنته فى دير المحرق ثم تركه للدير ورحيله الى دير البراموس مع القمص بولس الدلجاوى معلمه الذى اصبح نيافة الانبا ابرام اسقف الفيوم والجيزة وكان رئيس الدير وقتها الراهب يوحنا الناسخ الذى جلس على الكرسى المرقسى والذى هو فى طريقه لكى يقوم بمهامه .. وظلت الذاكرة تعبث به حتى استيقظ من افكاره على توقف القطار واصوات جمع غفير .. نظر من النافذة فايقن انه فى بنى سويف ووجد اسقفها وجمع من كهنته وافراد من الشعب .. لاول وهلة ظن انهم هنا ليرحبوا به وبمنصبه الجديد .. ولكنه كان واهم فقد جاء اسقف بنى سويف ليبلغه بانه محروم من فم البابا حرمانا لا يحله الا من اصدره وان البابا يبلغه انه محروما (لانه تعدى حدود وظيفته وقبل ادارة شئون الطائفة بدلا عنا حالة وجودنا وبغير ارادتنا ونبذ طاعتنا ) .. وتحرك القطار وتحركت معه مشاعر الانبا اثناسيوس اسقف ديروط وصنبو الذى كان الاسقف الوحيد الذى وافق على ان يتولى وكالة البطريركية بديلا عن البابا كيرلس الخامس بعد ان رفض كافة اساقفة ومطارنة الكنيسة القبطية هذا التعدى فى حياة البابا الموقر.. (2)

ونبدأ القصة من اولها ...كان المجلس الملى الاول قد تشكل عام 1874 من باشوات وافندية الاقباط ولكنه كان فى خلاف دائم مع البابا كيرلس الخامس مما ادى لتشكيل مجلسين وفشلهما لاسباب عديدة يوجزها المؤرخ يعقوب نخلة روفيلة فى قوله ( دسائس اصحاب الغايات الذين لم يكن همهم سوى مصلحتهم الذاتية ومنفعتهم الشخصية ) حتى جاء عام 1892 واراد كبارات الاقباط تشكيل مجلس اخر ولكن البابا كيرلس الخامس الذى كان يرى فى المجلس تدخلا صارخا فى سلطاته فقد طالب بتغيير بعض البنود قبل اى تشكيل جديد واصبح البابا والمجمع المقدس فى جانب والاراخنة فى جانب اخر ولم يكن هناك نقاط اتفاق واجتمع المجمع المقدس وقرر ان المجالس الملية انما سلب لحقوق الكنيسة وشرف رؤسائها واتصل كل طرف بالخديو توفيق الذى حاول ان يقف موقفا وسطا بين الطرفين .. البطريرك الذى يرفض الدعوة لانتخاب المجلس الملى والباشوات الذين يريدون تنفيذ اللائحة حرفيا .. وفشل بطرس باشا غالى ان يوفق بين الطرفين وان كان ميال بالاكثر للجانب العلمانى الذى يرغب فى تشكيل مجلس ملى ..

(3)

لكن عندما جلس على عرش البلاد عباس حلمى الثانى كان سندا للارخنة فى مطالبهم على دعوة الاقباط لانتخاب المجلس الملى تحت رعاية الحكومة وفتحت البطريركية عنوة وفى حراسة العساكر وضد رغبة البابا البطريرك وعلى الرغم من تصديق الحكومة السنية على المجلس الجديد الا ان البابا كيرلس الخامس صمد ولم يوافق على المجلس الجديد ورفض حضور جلساته رغم انه قانونا يعد رئيس المجلس وارسل البابا للصحف يعلن رفضه للمجلس وارسل للكنائس يعلمها بذلك .. كان البطريرك لا يلين .. مستهينا بكل شىء فى سبيل الحفاظ على ما تسلمه .. وتحمل فى سبيل ذلك الكثير ..لدرجة ان الخديو رفض استقبال البابا فى تشريفة عيد الاضحى ..ومع ذلك لم يهتز موقف البابا ..وهنا حدث ما لم يحدث من قبل

(4)

فى 27 يوليو 1892 انعقد مجلس النظار وقرروا رفع يد البطريرك كيرلس الخامس من رئاسة المجلس الملى وكل ما يتعلق بادارة شئون البطريركية وان يتم انتخاب وكيلا يقوم بمهامه وهنا ارسل البابا رسالة يوضح فيها موقفه واجتمع مع بطرس باشا غالى وطالبه ببعض التعديلات التى تضمن للبابا ادارة الكنيسة كما كان منذ القدم ولكن الاعضاء الذين استندوا الى سلطة الحكومة وظنوا ان عود البابا قد يلين فى مواجهة السلطة لم يوافقوا على مطالب البابا رغم شرعيتها وبها بنود تتعلق باوقاف الاديرة واوانى الخدمة وان يكون عدد من الاباء عضوا فى المجلس ..ولكن اعضاء المجلس ارسلوا للبابا خطابا بلهجة غير مناسبة لمخاطبة البابا بل وطالبوه بالرد فى غضون 24 ساعة !! وطبعا لم يرد البابا على خطاب يوصيه ان يقبل بالمجلس قلبا وقالبا دون نقاش .. وايقن الاعضاء ان الساعة قد دنت وان الوقت قد جاء لعزل البابا !!

(5)

واحتار اعضاء المجلس الملى فيمن ينوب عن قداسة البابا فقد رفض كل الاباء المطارنة والاساقفة ولم يوافق سوى الانبا اثناسيوس اسقف صنبو ووافق بعد الحاح وبعد صدور امر رسمى من الباب العالى .. مسكين كان يظن ان كرسى مارمرقس مجرد قرار بختم الدولة .. او ان الزمان سيطيب له لمجرد ان بعض الباشوات سندا له .. وكما ذكرت تم ابلاغه بحرمان البابا على محطة بنى سويف واعلن البابا فى كل محفل ان الانبا اثناسيوس محروما لانه تعدى القوانين الكنسية ..وصدر قرار تعيين الانبا اثناسيوس فى 27 اغسطس 1892 وفى 30 اغسطس اصدر البابا منشوره ( انقضاض الصواعق الكنسية ) فصل فيه اسباب حرمان الانبا اثناسيوس ..وكان البابا فى الاسكندرية فارسل تلغرافا يقول لاولاده ان يغلقوا ابواب المرقسيه بكلوت بك فى وجه مغتصب الكرسى .. .. وعندما ذهب بعض اتباع الانبا اثناسيوس للمرقسية وجدوا الابواب مغلقة واصوات تناديهم ( يا محرمون ..يا محرمون )

ولما وجد اعضاء المجلس ان البابا مازال صامدا اصدروا قرارا بابعاد البابا عن كرسيه ونفيه فى دير البراموس فى واقعة هى الاولى فى تاريخ الكنيسة ووافقت الحكومة على قرار المجلس الذى قال ان موقف البابا فيه شبهة اثارة هياج فى الكنيسة وعدم خنوع لقرارات الحكومة .. وكذلك لاصداره قرارا بحرمان انبا اثناسيوس .. فماذا صنع البابا ؟؟ (6)

فى 9 سبمتبر حمل البابا عصاته وذهب الى الدير الذى قضى فيه سنوات شبابه ووضع همه فى فلاحة الحديقة هناك ..وقبل ان يذهب قام بتوزيع اغلب ملابسه على الرهبان فى المقر البابوى وكان فى القلاية 1200 جنيها لم ياخذ منها مليما واحدا بل ارسله للمجلس الملى فى رسالة واضحة ان المال الذى يريد البعض السيطرة عليه لا يهمه ابدا فهو راهب سواء فى قلايته او على كرسى البشير مارمرقس ... وتم نفى انبا يؤانس مطران الاسكندرية والبحيرة الى دير انبا بولا وذلك لانه كان السند الاول لقداسة البابا

(7)

وبدلا ان تهدأ الامور وتطيب لاعضاء المجلس والاسقف اثناسيوس ..وجدناها تزادا اشتعالا فقد هجر الاقباط الكنائس واختفت الاحتفالات بالاعياد لدرجة ان عيد الملاك والعريان لم يحضرهما سوى افراد معدودين وكان قبلا يحضرهما الالاف.. ولم يجرؤ احد على الصلاة مع الاسقف المحروم الذى وصل القاهرة فى اغسطس 1892 ومع ذلك لم يتمكن من صلاة القداس الا فى الاسبوع الاخير من شهر ديسمبر تقريبا بعد ثلاثة اشهر من وصوله القاهرة وذلك لايقانه انه محروم .. وفى اثناء القداس حدثت امورا غريبة اثارت قلق اتباع هذا الاسقف فقد قرا بالخطأ اصحاح خيانة يهوذا للسيد المسيح كما وقعت الصينية من يد احد الكهنة المؤيدين للاسقف وعم القلق فى جموع الشعب الذين كان يعبر النيل الى الجيزة ليصلى هناك .. بل وصلى بعض الاقباط فى كنيسة الروم الارثوذكس فى الحمزاوى مما جعل كهنتها يصلون بالعربية فرحين بالشعب الجديد .. ولكن الاغرب ان اعضاء المجلس الملى انفسهم رفضوا ان يقيم اسقف صنبو شعائر مناسباتهم الدينية من صلاة جناز او اكليل .. والاغرب انهم رفضوا استقباله فى بيوتهم .. لقد كان الاقباط يحبون باباهم كعهدهم دائما مع الجالس على كرسي مارمرقس ولا يهمهم من قريب او بعيد تلك الحملة التى يقودها البعض سواء من الشعب او الاكليروس لسبب او لغير سبب .. حتى ولو كانوا مدعومين من اى سلطة زمنية .. وبعد ان خلت الكنائس من المصلين واعتكف الاساقفة فى الاديرة للصلاة والاسترحام ..بل وارسل الاقباط اكثر من ثمانية الاف تلغراف للحكومة طالبين عودة البابا ..ورغم محاولات بعض اعضاء المجلس الملى اظهار ان غبطة البطريرك كان حجر عثرة للنهضة كما يظنون .. لكن الشعب الواعى كان يقدر ان يميز جيدا بين الحق والباطل المرتدى ثيابا زائفة ..وتدخل الشعب القبطى متمثلا فى الاعيان الذين وفدوا للقاهرة من مديريات مختلفة وقابلوا اعضاء الحكومة واعضاء المجلس الملى وقابلوا الخديوى ايضا .. وعلى الجانب الاخر وفد للقاهرة مطارنة اسيوط وجرجا والمنيا ولم يرضوا ان يقيموا مع الاسقف اثناسيوس فى المقر البطريركى بل اختاروا ان يقيموا فى مكان على اطراف القاهرة تابع لدير الانبا بولا .. وعندما ظن بعض اعضاء المجلس الملى انهم قدموا من بلادهم لحل الانبا اثناسيوس بعيدا عن قداسة البابا قالو بالنص : ( اما حرم البطريرك فلا يحله الاهو نفسه ) وعادوا لبلادهم دون حل .. فقد اشترط المسئولين ان يصطلح البابا مع المجلس الملى الذى نفاه !! وان يقدم البابا ايضا استرحاما للخديو ولم يوافق الاعيان الاقباط على هذه الشروط فماذا كان موقف البابا كيرلس الخامس منها ؟؟ ذهب وفد من اعيان الطائفة لمقابلة غبطته فى دير البراموس فذهبت المفاوضات ادراج الرياح ولم تات بفائدة البته كما تقول مجلة الهلال الصادرة انذاك .. فقد رفض البابا الاعتذار عن ذنب لم بقترفه كما رفض ايضا استبدال انبا اثناسيوس باسقف اخر من اختياره لعدم شرعيه هذا ..ولكن الضغط الشعبى يتزايد مما فاق احتمال اعضاء المجلس الملى مما دعا رئيس النظار لايجاد حل سريع لدرجة انه قال لجناب الخديو : " يا افندينا جنابك لا تملك حق نفى فرد بسيط من الأفراد إلا بحكم صادر من محكمة , فكبف تأمر بنفى رئيس دينى جليل المقام يماثل بابا روما وكيف يكون موقف سموكم لو إلتجأ للمحاكم؟ " وكان الحل ان يقدم المجلس الملى نفسه استرحاما للخديوى لعودة البابا المنفى .. واعفاء الانبا اثناسيوس من منصبه كرئيس للمجلس الملى وكوكيل للبطريرك .. ظل البابا راسخا كالنخلة يزهو وكان ثباته سببا ان يتراجع المجلس الملى عن قراراته رغم دعم الخديو ودعم المعتمد البريطانى الذى كان لا يرتاح للبابا كثيرا لمواقفه الوطنية المعروفة ..

(8)

يقول المؤرخ ليدر فى كتابه ( ابناء الفراعنة المحدثون ) : لا يذكر احد ان القاهرة كانت من قبل مسرحا لمثل هذا الترحيب الشعبى الحماسى الذى قوبل به البطريرك عند عودته فقد ملأت الجماهير شوارع المدينة وازال بحر الحماس الضخم كل فكرة ماعدا فكرة الابتهاج الشديد بعودته .. حيث احتفلت الجماهير المسلمة بهذا الحدث الكبير جنبا الى جنب مع الاقباط .. وبكى الناس من الفرح وغنوا مادحين النفى كأن الها قد اعيد اليهم وكان الاعداء التقليديون لقرون يتعانقون مهنيئن بعضهم بعضا .. انتهى كلام ليدر الذى زار البابا كيرلس الخامس فى اخر ايامه ومدح فيه الثبات والبساطة وكان غبطة البطريرك قد قضى فى منفاه ستة اشهر وعاد يوم 4 فبراير 1893 وكان يوم سبت وحضر مندوب من الحكومة السنية ومعه جماعة من اعيان الطائفة وتم فرش الطريق الى الكنيسة بالسجاجيد بل وحل الشعب خيول عربة البابا وجروها بانفسهم واستقبله الكهنة بالشموع والبخور والازهار من باب الحديد وسيرا فى شارع كلوت بك وحتى الكنيسة المرقسية .. وشكر البابا الحضرة الخديوية ورئيس النظار رياض باشا وبعد ايام منح الخديوى البابا الوشاح المجيدى وكان البابا قد قرر بدء صفحة جديدة ..

(9)

قام البابا بزيارة اعضاء المجلس الملى فى منازلهم ومنحهم البركة والحل ثم دعا الانبا اثناسيوس الى القداس وحضر نيافته وهو لا يعرف ماذا ينوى قداسة البابا ولكنه فؤجى ان قداسة البابا كيرلس الخامس يرقيه الى رتبة مطران دون ان يخبره وهكذا حله من حرمه واعاده الى صنبو مقر ايبارشيته .. وامضى فيها بضعة سنوات ولكن فى عام 1900 تنيح الانبا اثناسيوس ويقال انه مات مسموما فى بلدة القوصية .. اما قداسة البابا فقد امتد به العمر حتى جلس على الكرسى المرقسى اكثر من خمسين عاما وعاش حتى عام 1927 بعد ان حارب واصمد وانتصر ولم يتهاون فى حق من حقوقه او بالحرى من حقوق الكرسى المرقسى ..

(10)

للكرسى المرقسى بريق خاص قد يبهر البعض الذى يرى فى الكرسى مجرد كرسى وسلطة وصولجان وينسى انه ليس صولجانا بل عصا للرعاية .. وان من الجالس على الكرسى سوف تطلب نفوس ملايين الاقباط .. حقا قال الكتاب كل آلة صورت ضدك لا تنجح .. لا مال ولا سلطة ولا شهوة ولا حجج واهية ولا مؤامرات ولا باشوات ولا رؤى ولا غيره ممكن تهز شرعية الكنيسة ..دى رسالة انبا اثناسيوس اسقف صنبو للكنيسة النهاردة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق