السبت، 28 أغسطس 2010

بالصليب كانت الغلبة



بقلم: الأب مشير باسيل عون

تُجمع المسيحيات الثلاث التاريخية، الكاثوليكية والارثوذكسية والبروتستانتية، على فهم الصليب مرقاةً الى التبصّر في جوهر التدبير الإلهي، وتجمع ايضاً على ان الله يرفض رفضاً قاطعاً عذاب الانسان. فلا يُعقل، من ثمّ، أن يرسم لروحه وابنه وكلمته يسوع المسيح أن يتألم ارضاءً للارادة الإلهية واطفاء للغضب الإلهي على خطايا الانسان. وعلى قدر ما يتهيأ للعقل اللاهوتي المسيحي أن يتبصّر في صليب يسوع المسيحي، يخلص الى الاعتقاد الذي يضع في المقام الأول مشيئة الحبّ الإلهي. فالله كيانه فيض من الحب. وأما الانسان فكيانه مفطور على حرية الاقبال الى هذا الحب او الإعراض عنه. هكذا شاء الله ان يحيا الانسان ملء الحياة. والحرية هذه تحملها المسيحية على معنى القدرة الكيانية الأصلية التي تؤهّل الانسان لامكانات شتّى من المواقف الوجودية. فاذا شاء الانسان المتصلّب ان يعود فيصلب قيم المسيح السامية، سكتت المشيئة الإلهية سكوت الاكتئاب عن هذه الخطيئة لإن امكان الخطيئة هو الذي يضمن للإنسان حرية الاختيار. وعلى حسب هذه الرؤية، تصبح الخطيئة في وجهها الآخر، هي الضمانة التي تكفل للانسان حقيقة الهبة الإلهية. فالانسان حرّ في ما يتيقن من حقيقة حريته، وذلك إما عن طريق الخطيئة ليُثبت انه قادرٌ بحريته على معارضة تدبير الحب الالهي، وإما عن طريق البرّ ليثبت ان حريته لا تنتعش ولا تمتلئ إلا حين تختبر ذاتها كفعل حب ورقّة وحنان وانهاض للإنسان وللإنسانية.

واستناداً الى هذا الاختبار الايماني المسيحي الأصليّ، يستقيم التبحّر في معاينة واقع الألم، ألم المسيح على الصليب وألم الانسان في الحياة. فالسيّد المسيح جاء ليحيا في أصالة الحياة الإنسانية الحرّة، لا ليختم حياته على صليب الآلام. غير ان خطورة الأصالة الوجودية التي انتهجها لذاته في دنوّه الثابت من سرّ الحبّ الإلهي وفي تحسّسه العميق لأوجاع الانسان، هذه الخطورة جعلته يتحسّس قبل الأوان خاتمة الفاجعة التي ستتجلى على درب الآلام. والفاجعة هذه لها وجهان، وجه الإخفاق الانسانيّ في اعتناق دعوة المسيح المحرِّرة، ووجه الحزن الإلهي في إصرار الله المفرط على ثقته الثابتة بالانسان. من الأمور التي يعلمها علم اليقين جميع المؤمنين ان الله قادر أن يُكره الإنسان ويقهر فيه حريته فيمنعه عن الانحراف والزلل والخطيئة، أي عن صلب المسيح في زمن التصلّب اليهودي القديم، عن صلب قيم المسيح في زمن تجربة الشرّ التي تتربّص بالإنسان في كلّ موضع وفي كل بيئة وفي كل حال. غير أن هذا الإكراه الإلهي، على الرغم من يقين المؤمنين، لم يختبره أحدٌ من الناس ولن يختبره أحد لأن الله لا يُبهجه أن يبتدع لنفسه قوماً يحيون ويتحرّكون في صورة الدمى المستكينة الذليلة. فإذا ارتضى المسيح أن يتألم من غير أن يستنفر كتائب الملائكة للدفاع عنه، فلأن التدبير الخلاصيّ في المسيحية يبلغ بالله الى ملاقاة الانسان في عمق حركة الوجود. ومن دلائل الانتساب الى هذه الحركة اختبار الظلم والألم والشرّ. لذلك تتحسّس المسيحية في تلمّسها لسر الله ان من طبيعة الحب الذي يريده التدبير الإلهي لكل إنسان ان يفضي بالمسيح الى اختبار أويقات الإخفاق ولحيظات الموت حتى يُكسِب هذه كلها أبعاد المعنى الإنساني الأسمى. فيُضحي الصليب بذلك تجلّياً لحقيقة الأوجاع الإنسانية التي تختم صحة الانتماء الى الواقع البشري. ومن مقاصد هذا التجلّي ان يعاين الانسان في رسم الصليب استقامة المعاني التي تنطوي علىها هذه الأوجاع.
فإذا كان الأمر على هذا النحو، يتبين في الاختبار الايماني المسيحي القويم ان الصليب لا يعني الألم وحبّ التلذّذ بالألم. فالله يحب الحياة ويبتهج بالإنسان الحي. والله يريد للإنسان ان يحب الحياة وان يبتهج بالله الحيّ. فإذا كان تدبير الحبّ الالهي يقضي بأن يعين المسيح الانسان على الانعتاق من الألم، كان الصليب رفضاً للألم الإنساني، وتغييراً لمعانيه. لذلك لا تعتقد المسيحية ان الانسان ينبغي له ان يدافع عن الاقتدار الالهي، بل تؤمن بأن الانسان ينبغي له أن يتيقن من عظمة الأثر الخفي الذي تُنشئه الرقّة الإلهية في مطاوي الزمن الانساني. فالصليب اعتراف بحتمية الألم البشري وإقرار بحتمية المجاهدة في إبطال هذا الألم. وكلّما أعرضت المسيحية عن وجه من هذين الوجهين سقطت في تجربة المغالاة. فآثرت في الوجه الأول روحانية التفجّع بالحتمية، واسترسلت في الوجه الثاني في تعظيم الغلبة المبطِلة لمعنى المجاهدة.
فالصليب يضع المسيحية في تحسّس آخر للألوهة، لا يحرم الألوهة من سموّها وقدرتها، ولكنه يرى فيها مصدراً للرقّة الغالبة في الخاتمة. واذا كان الصليب يدلّ على ضعف الحبّ الإلهي، فلأن الله، في حكمة تدبيره الممتنع الإدراك، يريد للإنسان أن يأتي الى حقيقة كيانه الانساني المفطور على الحب عن طريق الرقّة، لا عن طريق الاقتدار. ولذلك تُكبر المسيحية في يسوع المسيح أمانته في إظهار كمال الرقّة الإلهية، ولا يُربكها أن تتكلّل مسيرة النضال التي انتهجها المسيح بخاتمة الإخفاق التاريخي المنظور. وفي هذا السياق يذكّرنا بولس الرسول بأن المسيح "صُلب عن ضعف، ولكنه يحيا بقدرة الله" (رسالة بولس الثانية الى أهل كورنثس ،13 4). فخاتمة الإخفاق الإنساني لا تكتسب معناها الأبلغ في المسيحية إلا بفضل نهضة القيامة الظافرة.
ولا جرَم أن الإسلام يُربكه أن تعترف المسيحية بشيء من الضعف الإلهي على الصليب. فالصورة القرآنية للاقتدار الإلهي تمنع البصيرة اللاهوتية الاسلامية من افتراض أي ضرب من ضروب الإخفاق الإلهي. ولكن إخفاق الصليب في المسيحية لا يُغلق على الحب الإلهي. فالحبّ الإلهي، في عرف المسيحية، تشتدّ قدرته بمقدار ما يناصر الانسان في تجاوز حتميات الألم الانساني. ومع أنه يرضى بتسلّط الخطيئة الظاهر، الا أنه لا يساكن الشرّ على الاطلاق، بل يجتهد في مناهضته حتى الإبطال والإلغاء. ومن ثم، فالصليب يدلّ في المسيحية على ان الخطيئة لا يبطلها إلا فيض الحب. وكل ما سوى ذلك من ضروب الإنصاف المشروع والقهر الفعّال في استئصال الشرّ يظلّ عاجزاً في عمق أثره عن تغيير حركة الواقع الإنساني. بذلك تتضح معالم التباين اللاهوتي في تصوّر جوهر التدبير الإلهي في المسيحية وفي الإسلام. فكلا التصوّرين يصبوان الى معاينة غلبة المحبة والرحمة الإلهيتين. غير ان السبل تختلف بين اختبار ايماني مسيحي يؤمن بظفر الحب الإلهي في حركة الإخلاء الذاتي على الصليب واختبار ايمان اسلامي يثق بظفر الرحمة الإلهية في اثبات الاقتدار الإلهي في مجرى التاريخ البشريّ المنظور. واذا ما حضرت المقارنة اللاهوتية في هذه المسألة الدقيقة، جاز القول بأن المسيحية هي في جوهرها تنشد الغلبة بالصليب، وبأن الاسلام هو في جوهره ينشد الغلبة بالقيامة.
ومما ينجم عن هذه التوسّعات اللاهوتية ان الغلبة التي تنشدها المسيحية في الصليب لا تعني على الاطلاق ظفر المسيحية. ولا ريب ان هذه الحقيقة اللاهوتية هي من أشد الحقائق عسراً في المسيحية ومن أعظمها استنفاراً للعقل اللاهوتي المسيحي. أجل، ان قيامة المسيح لا تعني انتصار المسيحية بما تنطوي عليه من تشكيلات طقوسية واجتماعية وثقافية وسياسية زائلة، بل تدل بالأحرى على استقامة يقين المسيحيين بأن حياة المسيح وأفكار المسيح ومُثُل المسيح المتجليّة في اعتلان الرقّة الالهية هي التي انتصرت من بعد أن انغلّت انغلالاً خفِراً في بُنى الانجازات الانسانية الراقية، وهي التي سوف تنتصر في خاتمة الأزمنة حتى ستتجلى للجميع علامات الانتصار الجزئية التي تعاقبت على الانسان في مواظبته على نضال تحرير الانسان والسعادة وإكماله.
ولا غرابة من ثم أن الصليب علامة الإخلاء الذاتي في المسيحية. وليس الإخلاء في المسيحية إزهاقاً للحياة وإبطالاً للتاريخ، بل هو، بخلاف ذلك، تعزيز للحياة واحياء للإنسان وترميم للتاريخ. والإخلاء إخلاءان في المسيحية، إخلاء الذاتية الجماعية واخلاء الذاتية الفردية. في الاخلاء الأول يحثّ الصليب المسيحية على إخلاء ذاتها من جميع الصور التاريخية التي تراكمت في وعيها الجماعيّ وأوشكت ان تحجب فيها صفاء الوجه الإلهي. فالإخلاء الالهي في الصليب هو دعوة الى إخلاء المسيحية من مادّتها التاريخية التي تتلبّس بها في كل حقبة من الحقبات، وذلك من أجل أن يستوطن روح الله في ذاتية المسيحية فتتجلّى بها علامات حضور الله في الوجود.
وأمّا في الإخلاء الثاني، اخلاء الذات الفردية، فإن الصليب يحرّض المؤمن المسيحي على تصوير الانسانية في كيانه تصوير الأمانة لحقيقة الدعوة الانسانية الأصيلة. فالذات الانسانية تتحقّق فتنتعش وتكتمل على قدر ما تسعى الى تحقيق جمال دعوتها الانسانية السامية. ولا شك أن الاختبار الايماني المسيحي يحمل هذا الجمال الانساني على معنى الحب والحنان. وعلى هذا النحو يغدو الصليب طاقة الاستنهاض الروحي التي تولّد في الذات الانسانية رغبة السعي الى الظفر ببهاء طبيعتها التي يسكنها روح الله المبثوث في الخليقة جمعاء.
ورأس الكلام في هذا كله ان الصليب في المسيحية لا يحقّر الذات الانسانية فيرذلها ويتواطأ على إفنائها. الصليب في المسيحية يحقق الذات الانسانية في غير ما تحققها حضارات التاريخ التي لم تبلغ بعد الى التثبّت من جدارة القيم الانجيلية التي اتّصفت بها سيرة المسيح والتي ما انفكّت تتّصف بها سيَرُ عظماء الانسانية من رجال ونساء يؤثِرون على التجبّر والتصلّب قيم التغافر والتراحم. وإذا كان الصليب هو الينبوع الذي تغترف منه المسيحية الطاقة على الارتداد والتجدّد، فلأنّه هو الذي يُلهمها أن تضحّي بكلّ ما يعلَق بها من دنيويات مسلك التسلّط البشري. الصليب يحقق المسيحية على قدر ما يُلغي فيها ألبستها التاريخية المهلهلة. فالإخلاء اللاهوتي امثولة للإخلاء الإنساني. والإخلاء الإنساني رفض لمنطق القطعية التاريخية واعتراف بنسبية المسعى البشري. فإذا كان المسيح يُخلي ذاته على الصليب تشوّقاً الى معانقة الجميع من دون استثناء، فحريٌّ بالمسيحية وبالمسيحيين أن يخلوا من ذواتهم ما بات يمنعهم من ملاقاة الآخرين ومواكبتهم في مجرى اختباراتهم الانسانية. المسيحية، في صليبيّتها الحقيقية، تُعرض عن جميع أشكال الإنجاز التاريخيّ المنظور. وهي الأشكال التي تحمل فيها على وجه الضرورة شيئاً من السطوة وإثبات الذات القاهر، فتروم ان تقبض على جوهر الحياة الإلهية، وجوهر الحركة الايمانية وجوهر الدعوة الانجيلية، وجوهر الاختبار الإنساني.
عارضت الكنائس بين روحية الصليب وروحية القيامة، حتّى لقد غدا التغنّي بالقيامة وقفاً للشرقيين، والتفجّع بالصليب حكراً للغربيين ومن نحا نحوهم من الشرقيين الكاثوليك. والحال أن هذا التمييز لا يصحّ حين يصبح الصليب هو معنى القيامة، أي حين يدلّ الصليب على أن القيامة ليست قهراً للإنسان، بل هي رمز للشركة التي يُنشئها الله مع كل انسان يصبو الى انجاز انسانيته في صميم اختبارات الوجع البشري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق